الاحتفال بالربيع كان معروفاً عند الأمم القديمة من الفراعنة و البابليين و الآشوريين ، و كذلك عرفه الرومان و الجرمان ، و إن كانت له أسماء مختلفة ، فهو عند الفراعنة عيد شم النسيم ، و عند البابليين و الآشوريين عيد ذبح الخروف ، و عند اليهود عيد الفِصح ، و عند الرومان عيد القمر ،و عند الجرمان عيد”إستر” إلهة الربيع.
و أطلقوا عليه اسم ” عيد بساح” الذي نُقل إلى العربية باسم”عيد الفِصح”و هو الخروج ، و لعل مما يشير إلى هذا حديث رواه البخاري و مسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: قَدِم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلي المدينة فرأى أن اليهود تصوم عاشوراء ، فقال لهم : “ما هذا اليوم الذي تصومونه”..؟ قالوا هذا يوم عظيم ،نجَّى الله فيه موسى و قومه و أغرق فرعون و قومه ، فصامه موسى شكرًا فنحن نصومه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ” نحن أحق و أولي بموسى منكم”، فصامه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمر بصيامه. و في رواية فنحن نصومه تعظيمًا له
غير أن اليهود جعلوا موعدًا غير الذي كان عند الفراعنة ، فحددوا له يوم البدر الذي يحل في الاعتدال الربيعي أو يعقبه مباشرةً.
و لما ظهرت المسيحية في الشام احتفل المسيح و قومه بعيد الفصح كما كان يحتفل اليهود ، ثم تآمر اليهود على صَلب المسيح و كان ذلك يوم الجمعة 7 إبريل سنة 30 ميلادية ، الذي يَعقُب عيد الفِصح مباشرةً، فاعتقد المسيحيون أنه صلب في هذا اليوم ، و أنه قام من بين الأموات بعد الصلب في يوم الأحد التالي ، فرأى بعض طوائفها أن يحتفلوا بذكرى الصلب في يوم الفِصح ، ورأت طوائف أخرى أن يحتفلوا باليوم الذي قام فيه المسيح من بين الأموات ، و هو عيد القيامة يوم الأحد الذي يعقب عيد الفصح مباشرةً ، و سارت كل طائفة على رأيها ، و ظل الحال على ذلك حتى رأي قسطنطين الأكبر إنهاء الخلاف في “نيقية” سنة 325 ميلادية ، وقرر توحيد العيد ، على أن يكون في أول أحد بعد أول بدر يقع في الاعتدال الربيعي أو يعقبه مباشرةً ، و حسب الاعتدال الربيعي و قتذاك فكان بناءً على حسابهم في يوم 21 من مارس “25 من برمهات”، فأصبح عيد القيامة في أول أحد بعد أول بدر، و بعد هذا التاريخ أُطلق عليه اسم عيد الفصح المسيحي تمييزًا له عن عيد الفِصح اليهودي.
هذا ما كان عند اليهود وتأثُر المسيحيين به في عيد الفصح. أما الأقباط و هم المصريون الذين اعتنقوا المسيحية فكانوا قبل مسيحيتهم يحتفلون بعيد شم النسيم كالعادة القديمة ، أما بعد اعتناقهم للدين الجديد فقد وجدوا أن للاحتفال بعيد شم النسيم مظاهر وثنية لا يُقرُها الدين ، و هم لا يستطيعون التخلُص من التقاليد القديمة ، فحاولوا تعديلها أو صبغها بصبغة تتفق مع الدين الجديد ، فاعتبروا هذا اليوم يومًا مباركًا بدأت فيه الخليقة ، و بشر فيه جبريل مريم العذراء بحملها للمسيح ، و هو اليوم الذي تقوم فيه القيامة و يُحشر الخلق ، و يذكرنا هذا بحديث رواه مسلم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ” خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم ، و فيه دَخل الجنة ، و فيه أُخرج منها ، و لا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة” صحيح مسلم.
فاحتفل أقباط مصر بشم النسيم باعتباره عيد الربيع ، و مزَجوا فيه بين التقاليد الفرعونية و التقاليد الدينية , و كان الأقباط يصومون أربعين يومًا لذكرى الأربعين التي صامها المسيح عليه السلام ، و كان هذا الصوم يبدأ عقب عيد الغطاس مباشرة ، فنقله البطريرك الإسكندري ديمتريوس الكرام ، و هو البطريك الثامن عشر ” 188-234م” إلى ما قبل عيد القيامة مباشرةً ، و أدمج في هذا الصوم صوم أسبوع الآلام ، فبلغت عدته خمسة و خمسين يومًا ، و هو الصوم الكبير ، و عم ذلك في أيام مجمع نيقيه” 325م” و بهذا أصبح عيد الربيع يقع في أيام الصوم إن لم يكن في أسبوع الآلام ، فحرم على المسيحيين أن يحتفلوا بهذا العيد كعادتهم القديمة في تناول ما لذ و طاب من الطعام و الشراب ، و لما عز عليهم ترك ما درجوا عليه زمنًا طويلًا تخلصوا من هذا المأزق فجعلوا هذا العيد عيدين أحدهما عيد البشارة يُحتفل به دينيًّا في موضعه ، و الثاني عيد الربيع و نقلوه إلى ما بعد عيد القيامة ؛ لتكون لهم الحرية في تناول ما يشاءون ، فجعلوه يوم الاثنين التالي لعيد القيامة مباشرةً ، و يُسمَّى كَنَسِيًّا: ” اثنين الفِصح”، كما نقل الجِرْمانيُّون عيد الربيع ليحل في أول شهر مايو.
من هذا نرى أن شم النسيم بعد أن كان عيدًا فرعونيًا قوميًا يتصل بالزراعة جاءته مسحة دينية ، و صار مرتبطًا بالصوم الكبير و بعيد الفصح أو القيامة ، حيث حُدد له وقت معين قائم على اعتبار التقويم الشمسي و التقويم القمري معًا ، ذلك أن الاعتدال الربيعي مرتبط بالتقويم الشمسي , و البدر مرتبط بالتقويم القمري ، و بينهما اختلاف كما هو معروف ، و كان هذا سببًا في اختلاف موعده من عام لآخر ، و في زيادة الاختلاف حين تغير حساب السنة الشمسية من التقويم اليولياني إلى التقويم الجريجوري , و هو أن التقويم القمري كان شائعًا في الدولة الرومانية ، فأبطله يوليوس قيصر ، و أنشأ تقويمًا شمسيًا ،قدَّر فيه السنة بـ25، 365 يومًا ، و استخدم طريقة السنة الكبيسة مرة كل أربع سنوات ، و أمر يوليوس قيصر باستخدام هذا التقويم رسميًّا في عام 708م من تأسيس روما ، و كان سنة 46 قبل الميلاد ، و سُمي بالتقويم اليولياني ، و استمر العمل به حتى سنة 1582م حيث لاحظ الفلكيون في عهد بابا روما جريجوريوس الثالث عشر خطأ في الحساب الشمسي ، و أن الفرق بين السنة المعمول بها و الحساب الحقيقي هو 11 دقيقة ، 14 ثانية ، و هو يعادل يومًا في كل 128 عامًا ، و صحح البابا الخطأ المتراكم فأصبح يوم 5 من أكتوبر سنة 1582 هو يوم 15 أكتوبر سنة 1582 م ، و هو التقويم المعروف بالجريجوري السائد الآن ، و عندما وضع الأقباط تاريخهم وضعوه من يوم 29 من أغسطس سنة 284م الذي استشهد فيه كثيرون أيام ” دقلديانوس” جعلوه قائمًا على الحساب اليولياني الشمسي ، لكن ربطوه دينيًا بالتقويم القمري ، و قد بني على قاعدة وضعها الفلكي” متيون” في القرن الخامس قبل الميلاد ، و هو أن كل 19 سنة شمسية تعادل 235 شهرًا قمريًّا ، و استخدم الأقباط هذه القاعدة منذ القرن الثالث الميلادي ، و قد وضع قواعد تقويمهم المعمول به إلى الآن البطريرك ديمترويوس الكرام ، و ساعده في ذلك الفلكي المصري بطليموس.
و بهذا يُحدد عيد القيامة” الذي يعقبه شم النسيم” بأنه الأحد التالي للقمر الكامل “البدر” الذي يلي الاعتدال الربيعي مباشرةً.
و قد أخذ الغربيون الحساب القائم على استخدام متوسط الشهر القمري لحساب ظهور القمر الجديد و أوجهه لمئات السنين “و هو الحساب المسمى بحساب الألقطى” ، و طبقوه على التقويم الروماني اليولياني، فاتفقت الأعياد المسيحية عند جميع المسيحيين كما يحددها التقويم القبطي ، و استمر ذلك حتى سنة 1582م حين ضبط الغربيون تقويمهم بالتعديل الجريجوري ، و من هنا اختلف موعد الاحتفال بعيد القيامة و شم النسيم.
هذا هو عيد شم النسيم الذي كان قوميًّا ثم صار دينيًّا، فما حُكم احتفال المسلمين به...؟
لا شك أن التَّمتُّع بمباهج الحياة من أكل وشرب وتَنَزُّه أمْر مباح ما دام في الإطار المشروع، الذي لا تُرتكب فيه معصية ولا تُنتهك حرمة ولا يَنبَعِث من عقيدة فاسدة، قال تعالى:
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِىٓ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .
إن الإسلام يريد من المسلم أن يكون في تصرُّفه على وعْي صحيح وبُعْد نَظَر، لا يندفع مع التيار فيسير حيث يسير ويميل حيث يميل، بل لا بد أن تكون له شخصية مستقلة فاهمة، حريصة على الخير بعيدة عن الشر والانزلاق إليه، وعن التقليد الأعمى، لا يبغي أن يكون كما قال الحديث” إمَّعة” يقول: إن أحسَنَ الناس أحسنتُ، وإن أساءوا أسأتُ، ولكن يجب أن يُوطِّن نفسه على أن يُحسن إن أحسنوا، وألا يُسيء إن أساءوا، وذلك حفاظًا على كرامته واستقلال شخصيته، غير مُبالٍ بما يوجَّه إليه من نقد أو استهزاء، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهانا عن التقليد الذي من هذا النوع فقال ” لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه” رواه البخاري ومسلم.
فلماذا نحْرص على شَمِّ النَّسيم في هذا اليوم بِعَينه والنسيم موجود في كل يوم؟ إنَّه لا يعدو أن يكون يومًا عاديًّا من أيام الله حكمه كحُكْم سائرها، بل إنَّ فيه شَائبةً تُحمل على اليقظة والتبصر والحذر، وهي ارتباطُه بعقائد لا يُقرُّها الدِّين، حيث كان الزَّعم أنَّ المسيح قام من قبره وشَمَّ نسيم الحياة بعد الموت.
ولماذا نحرص على طعام بعينه في هذا اليوم، وقد رأينا ارتباطه بخرافات أو عقائد غير صحيحة، مع أنَّ الحلال كثير وهو موجود في كل وقت، وقد يكون في هذا اليوم أردأ منه في غيره أو أغلى ثمنًا.
إن هذا الحرص يُبرِّر لنا أن ننصح بعدم المشاركة في الاحتفال به مع مراعاة أن المجاملة على حساب الدين والخلُق والكرامة ممنوعة لا يُقرِّها دين ولا عقل سليم والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ” مَن التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومَن التمس رضا الناس بِسَخَطِ الله وَكَلَهُ الله إلى الناس” رواه الترمذي.