الغناء من الصّوت: هو ما طُرِب به من الصّوت، قال حميد بن ثور:
عجبْتُ لها أنَّى يكون غناؤها فصيحاً، ولم تفغَرْ بمنطِقِها فما
وقد غنَّى بالشِّعر، وتغنَّى به، فقال:
تغنَّ بالشِّعر، إمّا كُنْتَ قائِله، إنّ الغناءَ بهذا الشِّعر مضمارُ
وقد أراد ابن ثورٍ في قولة: (إنّ التغنّي)، فوضع الاسم موضع المصدر، وغنّاه بالشّعر وغنّاه إيّاه، ويُقال: غنّى فلانٌ يُغنّي أُغنيةً، وتغنّى بأُغنيةٍ حسَنَةٍ، وجمعُها الأغاني.
حُكم الأغاني
إنّ الأغاني التي تُستخدَم معها آلات العزف الموسيقيّ حرام مُطلقاً، ولا يحلّ سماعها أبداً، وقد رُوِي عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود أنّه أقسم ثلاثاً أنّ آية لقمان الواردة في قوله سبحانه وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)، فقد نزلت في المعازف، وأنّ لهو الحديث الذي يُضلّ عن سبيل الله هو المعازف. وأمّا الأغاني دون مُصاحبة آلات العزف، ولكنّ في معناها سوءاً أو كلاماً سيِّئاً، مثل: الغزَل، أو الهِجاء، أو نحو ذلك؛ فهو غناء مذموم كذلك على قَدر ما فيه من سوء وكلام لا يستقيم مع أحكام الشّريعة الإسلاميّة.
وإذا كان الغناء دون مرافقة المعازف والآلات الموسيقيّة، ولم تكن كلماته بذيئةً أو سيّئةً بل كانت ثناءً على الإسلام والمسلمين، وكانت كلماته تدعو إلى الحماسة، والبطولة، ومكارم الأخلاق، ونحو ذلك؛ فالغناء الذي صفته هكذا يُعدّ من النّشيد الذي هو سُنّة، وقد استعمله النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- والصّحابة الكِرام أثناء حفر الخندق وبناء المسجد، وأنشدوا في الغزوات، وكلّ ذلك بمشاركة الرّسول وتحت سمْعه وبصره، ولو لم يكن جائِزاً لما فعله النبيّ الكريم -عليه الصّلاة والسّلام- ولما أقرّه، ومثل هذا النّشيد لا حرجَ في سماعه.
وقد جاء عن عامر بن سعد أنّه قال:(دَخَلْتُ على قُرَظَةَ بنِ كَعْبٍ، وأبي مسعودٍ الأنصارِيِّ في عُرْسٍ؛ وإذا جَوَارٍ يُغَنِّينَ، فقلتُ: أَيْ صاحِبَيْ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأهلَ بَدْرٍ! يُفْعَلُ هذا عندَكم؟! فقالا: اجلس -إن شِئْتَ- فاسْمَعْ مَعَنا، وإن شِئْتَ فاذْهَبْ؛ فإنه قد رُخِّصَ لنا في اللَّهْوِ عند العُرْسِ).
عِقاب سماع الأغاني
مِن عقاب سماع الأغاني العذاب المهين في الآخرة، والدّليل عليه ما جاء في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)، ولكن لم ترد في القرآن طبيعة هذا العذاب في الآخرة، ولم تُحدَّد ماهيّته وكيفيّته، ولكن يكفي زجراً لكلّ إنسان يسمع الأغاني أنّه يُغضِب الله ويسخطه؛ وبهذا فإنّه يُعرِّض نفسه للعذاب المهين من الله سبحانه وتعالى.
وهناك من يستشهِد ويستدلّ ويستند إلى رواية تُروى على أنّها حديث عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-ونصّه: (مَنْ جلسَ إلى قينةٍ، صُبَّ في أُذُنِه الآنُكُ يومَ القيامةِ)، والآنك هو الرّصاص المُذاب، ومن الجدير ذِكره أنّ مثل هذا النصّ لا يصلح أن يكون مُستنداً لحُكمٍ شرعيٍّ، وقد ورد هذا النّص في مجموعة من الكتب في معرض الاستشهاد عن عقاب سماع الأغاني، وقد قال الإمام أحمد عن هذا النصّ في العِلل المُتناهية: إنّه باطلٌ، وحكم عليه ابن العربيّ في كتابه أحكام القرآن بأنّه لا يصحّ، وقال عنه ابن حزم في كتابه المُحلّى بالآثار: إنّه موضوع، وأورده الشّيخ الألبانيّ في كتابَيْه: السّلسلة الضعيفة، وضعيف الجامع، وقال عنه: باطلٌ موضوع، وقال الإمام الذهبيّ في كتابه تلخيص العِلل المُتناهية: إنّه من وضع عليّ بن المُنكدر، وبما أنّ هذا النصّ قد اجتمع المُحدّثون على أنّه موضوعٌ ومكذوبٌ عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وليس حديثاً عنه عليه الصّلاة والسلّام، فهو لا يصحّ مُستنَداً للحديث عن مسألةٍ عقَديّةٍ تتعلّق بعقوبةٍ ربانيّةٍ يوم القيامة، ويسقط الاستشهاد بهذا النصّ على عقوبة سماع الأغاني، بل ويأثم كلّ من يستشهد بهذا النصّ المكذوب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
أنواع الأغاني وحُكمها
عند استقراء حكم الغناء في الشريعة الإسلامية فلا بُدّ قبل الخوض في حُكم الغناء من التّمييز بين الغناء وأنواعه ابتداءً؛ فالغناء أنواع، ولكلّ نوعٍ حُكم، فيما يأتي بيان ذلك:
الغناء الذي تُصاحبه آلة عَزف ولَهوٍ
يُعدّ الغناء الذي تُصاحبه آلة عزفٍ ولهوٍ غناءً مُحرَّماً؛ فيحرُم سماعه من الرّجال والنّساء بالإجماع، وقد نَقل الإجماع على تحريم سماع آلات العزف -باستثناء الدّف- جماعة من العلماء، مثل: ابن الصّلاح، والإمام القرطبيّ، وابن القيّم، وابن حجر الهيتميّ، وابن رجب الحنبليّ، وأبي الطيّب الطبريّ، حيث قال الإمام القرطبيّ: (أمّا المزامير والأوتار والكوبة جميعها آلات موسيقيّة، فلا يُختلَف في تحريم استماعها، ولم أسمع عن أحد ممّن يعتبر قوله من السّلف وأئمّة الخلف مَن يُبيح ذلك، وكيف لا يحرُم وهو شِعار أهل الخُمور والفُسق، ومُهيّج الشّهوات والفَساد والمُجون! وما كان كذلك لم يُشَكَّ في تحريمه، ولا تفسيقِ فاعله وتأثيمه).
وقد دلّت على ذلك نصوص من الكِتاب والسُّنة، فمن ذلك حديث أبي مالك الأشعريّ -رضي الله عنه- أنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (ليكونَنَّ من أُمَّتي أقوامٌ، يستحِلُّونَ الحِرَ والحريرَ، والخمرَ والمعازِفَ، ولينزلَنَّ أقوامٌ إلى جنبِ عَلَمٍ، يروحُ عليهم بسارحةٍ لهم، يأتيهِم - يعني الفقيرَ- لِحاجةٍ، فيقولوا: ارجِع إلينا غداً، فيبيِّتُهمُ اللَّهُ، ويضَعُ العَلَمَ، ويمسخُ آخرينَ قِرَدةً وخنازيرَ إلى يومِ القيامَةِ)، قال ابن حجر العسقلانيّ عن هذا الحديث: وصلَه أبو ذرّ، وهذا حديث صحيح لا علّة له، ولا مَطعن فيه، وله شواهد، ولفظ المعازف لفظٌ عامٌّ يشتمل على جميع آلات اللهو؛ لذلك تَحرُم جميع المعازف وآلات اللهو إلا ما نصّ الدليل على استثنائه من التّحريم، كالدفّ فهو مُباح.
وأمّا قول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- (يستحلّون)؛ فهو من أقوى الأدلّة على تحريم المعازف، وأنّها مُحرَّمة، فلو كانت آلات اللّهو والمعازف حلالاً لما احتاج أن يقول يستحِلّونها؛ فالحلال لا يُستحَلّ؛ لأنّه حلال أصلاً، وإنّما يُستحَلّ الحرام، فدلّ ذلك على تحريم المعازف، ومن ناحية أخرى يُستدَلّ على تحريم المعازف بدلالة الاقتران الموجودة في الحديث، والتي تفيد التحريم؛ فاقتران المعازف مع جُملة من المُحرَّمات، مثل: الخمر، والحرير، والحِر: أي الزّنا، وهي مُحرَّمَة تحريماً قطعيّاً بالنّص والإجماع، يدلّ بدلالة الاقتران بالمحرّمات على تحريم المعازف.
ومن أهمّ الأدلة على تحريم الغناء قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)، قال ابن كثير صاحب كتاب تفسير القرآن العظيم في تفسير هذه الآية، قال ابن مسعود في هذه الآية: (الغناء، والله الذي لا إله إلا هو)، يُردِّدها ثلاث مرّاتٍ، وقال الحسن البصريّ: نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير. ويُباح الدف للنّساء خاصّةً وفي المناسبات مثل: الأعياد، والأعراس، شرطَ أن يكون الكلام المُصاحِب له كلاما طيّباً لا خُبثَ فيه، ولا فُحشَ، وألّا يستمع الرّجال لأصوات النّساء؛ حِفظاً للدّين والحَيَاء.
الغناء دون مصاحبة المعازف وآلات اللّهو والموسيقى
الغناء الذي لا يُصاحب المعازف وآلات الموسيقى واللّهو، نوعان:
النّوع الأوّل: غناء النّساء للرّجال، أو غناء امرأةٍ للرّجال، فهذا الغناء حرامٌ قطعاً، فإن غنّت المرأة في حضرة النساء بكلام طيّبٍ حسَن، في مناسبة كعيد أو عُرس جازَ ذلك.
النّوع الثاني: غِناء الرجل، شرطَ أن يكون الكلام المُستخدَم في الغناء طيِّباً وحسناً، يدعو إلى الفضيلة والخير، فهذا الغناء الطيّب أباحته جماعة من العلماء، وقال آخرون بكراهتِهِ، خاصّةً إن كان بأُجرة.
وأمّا إن كان الغناء بكلامٍ قبيحٍ أو يدعو إلى الرّذيلة، أو فيه تَغَنٍّ ووصفٌ للنّساء أو الخَمر فهو غناءٌ مُحرَّم؛ لِما فيه من خُبث الكلام ورذيله، والاستماع إلى الكلام المباح مُباح، أمّا الاستماع إلى الكلام الخبيث المُحرَّم فهو مُحرَّم.