الهجرة الأولى للحبشة ، الهجرة الثانية للحبشة ، موقف قريش من الهجرة إلى الحبشة
الهجرة الأولى للحبشة
بعد أن أصبح واضحاً لقريش أنّ محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- ثابت على دعوته ومبدائه، وقد أجمعت عشيرته على حمايته، وبعد أن فشلت محاولاتهم في صدّه عن دعوته، انتقلوا إلى مرحلة جديدة في الصدّ عن سبيل الله بتعذيب المؤمنين، وقتلهم، واضطهادم، حتى شعر رسول الله بخطورة الموقف، وأراد تخفيف المعاناة على أصحابه، فاختار لهم الهجرة إلى الحبشة؛ لأنّ فيها ملك لا يظلم عنده أحد، ولأنّها سوق من أسواق قريش التجارية، فتجهّزالصحابة للهجرة، وقبلوا ترك الأهل، والأموال، والوطن في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، وكان ذلك في شهر رجب، فخرج من الصحابة -رضي الله عنهم- أحد عشر رجلاً، وأربع نسوة، وكان منهم: عثمان بن عفان، وزوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ، وزوجته أم سلمة بنت أميّة، وعبد الرحمن بن عوف، ومصعب بن عُمير، والزبير بن العوّام رضي الله عنهم جميعاً، وسرعان ما وصلت الأخبار إلى قريش فخرجوا ليلحقوا باالمهاجرين ويمنعوهم، إلّا أنّهم لم يلحقوا بهم؛ لأنّهم كانوا قد ركبوا في السفينة وأبحروا متجهين إلى الحبشة.
الهجرة الثانية للحبشة
لمّا وصل الصحابة الكرام إلى الحبشة ودخلوا في جوار ملكها النجاشيّ، وصلتهم الأخبار أنّ قريشاً قد أسلمت، ففرحوا لذلك الخبر، وعادوا أدراجهم في شهر شوّال من نفس العام، وما أن اقتربوا من مكّة حتى علموا أنّ الأخبار التي وصلتهم لم تكن صحيحة، فعاد منهم من عاد، ولم يدخل أحد إلى مكّة إلّا مستخفٍ، أو بجوار رجلٍ من قريش، ووصلت الأخبار إلى قريش أنّ المسلمين في الحبشة قد دخلوا في جوار و حماية النجاشيّ، فاشطاطت قريش غضباً، وبدأت تُنكل في الصحابة وتنتقم منهم، كما قالت أمّ المؤمنين أمّ سلمة: (لمّا ضاقت علينا مكّة، وأُوذي أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في منعة من قومه وعمّه، لا يصل إليه شيء ممّا يكره ممّا ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إنّ بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً ممّا أنتم فيه، فخرجنا إليها حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا، ولم نخشَ منه ظلماً)، فلم يجد رسول الله خياراً إلّا أن يُلحق الصحابة إلى المهاجرين إلى الحبشة، ولكنّ الهجرة في هذه المرّة كانت أخطر، وأصعب، حيث إنّ قريشاً قد تنبهت للأمر، ولكن شاء الله -تعالى- أن يتمكّن ثلاثة وثمانون رجلاً، وتسعة عشر أو ثمانية عشر امرأة من الهجرة، وسمّيت بالهجرة الثانية إلى الحبشة.
مكيدة قريش بمهاجري الحبشة
لم تهدأ قريش بعد هجرة الصحابة -رضي الله عنهم- إلى الحبشة بل دبّروا مكيدةً؛ ليستردّوا المهاجرين من الحبشة، حيث إنّهم أرسلوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، وبعثوا معهم الهدايا لبطارقة النجاشيّ وللنجاشي شخصياً، ليؤثروا عليه ويسلّمهم المهاجرين في دياره، فلمّا ذهبوا إلى البطارقة وافقوا على ذلك، وذهبوا إلى النجاشيّ، وقالوا له: أيّها الملك إنّ هؤلاء غلمان سفهاء فارقوا دينهم ودين أبائهم ولم يدخلوا في دينكم بل ابتدعوا ديناً جديداً، فأعدهم لنا، وأيّدهم البطارقة على ذلك، ولكنّ النجاشيّ كان ملكاً عادلاً، فأراد أن يسمع من الطرف الآخر، فدعا الصحابة -رضي الله عنهم- وسألهم ما هذا الدين الجديد الذي فارقتم دين آبائكم ولم تدخلوا في ديننا من أجله، فتكلّم جعفر بن أبي طالب، وأوضح للنجاشيّ حالهم قبل الإسلام من عبادة الأصنام، وشركٍ بالله تعالى، وظلمٍ، وجهلٍ، وفساد خُلقٍ، ثمّ أخبره عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وصفاته فيهم، من نسبٍ، وصدقٍ، وحُسن خلقٍ، وبيّن له ما يدعو إليه رسول الله من نبذ الأوثان، وتوحيد الله تعالى، وصدق الحديث، والأمانة، والكفّ عن المحارم والدماء، وأنّه أمرهم بالصلاة، والزّكاة، والصيام، ثمّ وضّح له أنّ قومهم اعتدوا عليهم وعذّبوهم ليفتنوهم عن دينهم، ويعيدوهم إلى عبادة الأوثان وفعل الفواحش، فأبوا ذلك، ثمّ هاجروا بدينهم ولجأوا إليه دون غيره طمعاً بألّا يُظلموا عنده، فقال له النجاشيّ: (هل معك ممّا جاء به عن الله -تعالى- شيء)، فقال جعفر: نعم، فقال: (اقرأه علينا)، فقرأ عليهم من مطلع سورة مريم، فلمّا سمع النجاشيّ القرآن الكريم، لامس شغاف قلبه فبكى حتى ابتلّت لحيته، وبكى جميع الأساقفة من حوله حتى أخضلوا مصاحفهم، وقال النجاشيّ: (إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاةٍ واحدةٍ)، وقال لعمرو بن العاص وعبد الله: (اذهبا والله لا أسلمهم لكما أبداً)، فخرجا من عنده.
بينما كان عمرو وعبد الله في الطريق؛ قال عمرو بن العاص وكان صاحب دهاء ومكر: (والله لأتينه غداً عنهم بما يستأصل به خضراءهم)، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: (لا تفعل فإنّ لهم علينا أرحاماً حتى وإن اختلفنا معهم)، ولكنّ عمرو أصّر على ذلك، فعاد في اليوم التالي، وقال للنجاشيّ: (أيّها الملك إنّهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً)، فأرسل النجاشيّ في طلبهم ليسألهم عن قولهم في المسيح عليه السلام، فخافوا وفزعوا من الموقف، وتشاوروا فيما بينهم، ثمّ أجمعوا على قول الصدق كما عوّدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدخلوا عليه وقال جعفر: نقول فيه كما أخبرنا نبينا صلّى الله عليه وسلّم: (هو عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول)، فأخذ النجاشيّ عوداً من الأرض ثمّ قال :(والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود)، ففشلت بهذا مخططات قريش، وعاش المسلمون آمنيين في الحبشة، ثمّ أسلم النجاشيّ فيما بعد.