منذ أن جاء النبي -صلى الله عليه وسلم بالرسالة قوبل بشتى أنواع الإيذاء، وقد تعرّض الصحابة والصحابيات في هذه الفترة لشتى أنواع العذاب من كفار قريش، حيث أُوذوا وكُذِّبوا وعُذِّبوا تعذيباً شديداً، وقد ضحّوا -رضي الله عنهم- بأموالهم وأنفسهم التي هي أغلى ما يملكون، وكانت هذه التضحية هي أسمى درجات الإخلاص لهذا الدين العظيم، وأصدق وأظهر دليلٍ على صحة إيمانهم بالله عزّ وجلّ، وقوة عقيدتهم رغم حداثة إيمانهم وإسلامهم.
لم يكن التعذيب من كفار قريش مقتصراً على الصحابة من الرجال فقط، فقد عذبوا أيضاً من آمن من النساء المسلمات وأولادهم وذرياتهم وأقاربهم، وضيقوا عليهم في شتى نواحي الحياة كالتجارة والزواج وغير ذلك، وهناك عدة شواهد على تعذيب قريش لنساء المسلمين خاصةً، فما كان من المؤمنات رضوان الله عليهنّ جميعاً إلاّ الصبر والثبات فيما يواجهن من العذاب، فتحمّلن كما تحمّل رجال المؤمنين شتى ألوان العذاب والإيذاء، وصبرن على موقفهنّ وإيمانهنّ بالله وعلى الإيذاء، فكان منهنّ صاحبات سبقٍ لنيل الشهادة في سبيل الله، ونيل رضوانه والفوز بجنانه التي وعد الله للمؤمنين والمؤمنات فقد قال الله عزّ وجلّ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)،
كان بعض الذين عُذّبوا يمثلون أسراً كاملة، ومن بين تلك الأسر كانت أسرة صحابية جليلة حيث عُذّبت هي وابنها وزوجها وأُوذوا أيّما إيذاء، واستُشهد على إثر تلك الحادثة زوجها، ولحقته هي ببضع دقائق أو ساعات، ونجا ابنهما بعد أن نطق بالكفر مُكرَهَاً هروباً من أذى قريش، وقد نزل قرآن يُتلى إلى يوم القيامة بشأن ابنهم الذي أُكرِه وقلبُه مطمئنٌ بالإيمان فبرّأه الله، وكانت أمّه أوّل شهيدة في الإسلام.
سميّة بنت الخياط أول شهيدة في الإسلام
إنّ الصحابيّة الجليلة سميّة بنت الخياط هي أول شهيدة في الإسلام،
هي سمية بنت خُبّاط، وقيل: خيّاط،وهي أم الصحابيّ الجليل عمّار بن ياسر رضي الله عنه، من السابقين الأوّلين الذين دخلوا في الإسلام، فقد كانت سميّة رضي الله عنها سابعة سبعة في الإسلام، فقد قال مجاهد: (أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة: رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وسمية) وكانت رضي الله عنها ممن تعذّبوا أشد العذاب.
زواج سميّة بنت الخياط
زوجها رضي الله عنهما هو ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قَيس بن الحصين بن الوذيم بن ثَعْلَبَة بن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر بن يام بن عنس. وقد قدم ياسر بن عامر من اليمن إلى مكة قبل زواجه منها، وكان مجيؤه بهدف طلب أخٍ له، وكان معه حينها أخواه الْحَارِث ومالك فرجع الْحَارِث ومالك إِلَى اليمن وأقام ياسر بمكة، وحالف أَبَا حُذَيْفة بن المغيرة بن عَبْد الله بن عمر بن مخزوم، وقد كانت سمية أمَةً عند أبي حذيفة فزوّجها لعامر بن مالك، فولدت له عمّار، فأعتقه أَبُو حُذَيْفة.
إسلام سميّة بنت الخياط هي وأسرتها.
أسلمت سمية بنت الخياط هي وزوجها ياسر بن عامر وابنها عمار بن ياسر وأخوه عبد الله رضي الله عنهم جميعاً، سراً ثم جهروا بإسلامهم، فلما علم بنو مخزوم بإسلامهم غضبوا عليهم غضباً شديداً، وصبّوا عليهم العذاب الشديد.
تعذيب المشركين لآل ياسر
بعد أن أعلن آل ياسر إسلامهم ابتدأت قصة عذابهم حتى يتركوا دين الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، فصبروا رضوان الله عليهم واحتملوا الأذى في سبيل ألّا يعودوا إلى الكفر، واحتسبوا أجرهم عند الله سبحانه وتعالى، وقد لحق سمية أذى شديد وقد كانت رضي الله عنها كبيرة في السن، ومع ذلك صبرت وثبتت أمام تعذيب أبي جهل.
وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- كلما مرّ بآل ياسر وهم في البطحاء يُعذّبون على يد المشركين كان يدعو لهم بالصبر والثبات، فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام قوله لهم: (صبرًا آل ياسرٍ، فإنَّ موعدَكم الجنةُ).
وبعد أن اشتد العذاب على عمار أظهر الكفر للمشركين في الظاهر، ولكن كان الإسلاميسكن قلبه، فنزلت آية كريمة في شأنه -رضي الله عنه - فقد قال الله عز وجل: (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ).
استشهاد سميّة بنت الخياط
بعد العذاب والأذى الذي لحق بسمية بنت الخياط رضي الله عنها نالت الشهادة وكانت أهلاً لها، حيث طعنها أبو جهل بخنجر، فماتت على الفور، وقد كانت -رضي الله عنها- امرأة عجوز، ولكنها أبت إلاّ أن تموت على الإسلام والهدى، وقد كان لموتها أثر عظيم على من حولها، حيث ثبت على الدين من رأى حادثة استشهادها، كيف لا وهي المرأة العجوز الطاعنة في السن التي صبرت على العذاب والأذى في سبيل نصرة دينها وإعلاء كلمة الله، وإرضائه عزّ وجل.