للإيمان بالله سبحانه وتعالى حلاوة لا تدنو منها حلاوةً، إذ إنّ الحياة التي يسعى إلها المؤمن هي الآخرة، فالدنيا دار عبور والآخرة دار قرار واستقرار وخلود، والنعمة في الدنيا مهما بلغت فإنها ستنتهي وتزول في يوم من الأيام لا محالة، أما النعم والنعيم في الجنة فإنه دائمٌ لا يزول، في الجنة خلود بلا همّ ولا تعب ولا مرض، في الجنة لا عُري ولا جوع ولا حر ولا برد، في الجنّة قرارٌ واستقرارٌ وسكنٌ وطُمأنينة ونعيمٌ خالدٌ مقيم.
أدرك المسلمون هذه الحقيقة الرّاقية وآمنوا بها بكل جوارحهم وكلّ ما أُوتوا من قوّة، لذلك آمنوا بالله واطمأنّت قلوبهم بالإيمان، وأدركوا أنّ الفوز الحقيقيّ هو بمن ينال رضى الله عزّ وجلّ، وأنّ الرّابح الحقيقيّ هو من يفوز بالخلود في الجنّة، فأخذوا يبذلون في سبيل الله الغالي والنفيس، حتى أرواحهم استرخصوها في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمة الله، فقدّموا الشّهداء واحداً تلو الآخر، وما زال المسلمون إلى اليوم يُقدّمون الشهيد تلو الشهيد دفاعاً عن الحق وإعلاءً لكلمة الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا الطابور العظيم من الشهداء في سبيل الله كان له روّاداً سابقون ضحّوا بدمائهم وحياتهم في سبيل الله رجالاً ونساءً، فمن هي أول شهيدة في الإسلام؟
قصة صبر آل ياسر
لقد ارتكب المشركون في مكة في بداية الدعوة الإسلاميّة أبشع الجرائم ضد المسلمين لردعهم عن اعتناق الإسلام، ولردعهم عن نصرة دين الحق ونبيّ الحق -عليه الصّلاة والسّلام-، وكان على رأس من تعرض للتّعذيب والتّنكيل آل ياسر؛ وهم ياسر بن عمار، وزوجته أوّل شهيدة في الإسلام سُميّة بنت الخياط، وابنهما عمار بن ياسر-رضي الله عنهم-، فقد عذّبت قريش في بداية الإسلام مجموعةً من الصحابة، وكان أبو بكر الصديق يمرّ على بعض من يُعذَّب من الصّحابة فيشتريهم ثم يعتقهم، إلا أنّ آل ياسر قدموا أرقى وأجمل صور التّضحية والثبات على الحق رغم التّعذيب والتّنكيل والتّهديد، فهذا عمار بن ياسر تُقتل والدته ويموت والده من شدّة العذاب أمام عينيه، ولكنه يثبت على الحق رغم تعدّد أساليب التعذيب؛ كالصلب، وإلباسه درعاً من الحديد في الحر الشّديد حيث يُصبح حاراً بسبب أشعة الشّمس الحارقة في مكة، ومن أساليب التعذيب التي مُورِست ضده التغريق في الماء، إلا أنّه صبر وكان قلبه مُطمئناً بالإيمان مع إكراهه تحت التّعذيب على النطق بكلام الكفر والنيل من رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام.
جاء في الحديث الذي يرويه محمد بن عمار بن ياسر: (أخذ المشركونَ عمّارَ بن ياسرٍ، فلم يتركوهُ حتى سَبّ النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهُم بخيرٍ، فتركوهُ، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما وراءكَ؟ قال : شَرّ يا رسولَ اللهِ، ما تُرِكتُ حتى نلتُ منكَ وذَكرتُ آلهتهُم بخيرٍ، قال صلى الله عليه وسلم: فكيفَ تجدُ قلبكَ؟ قال: مُطمئنّاً بالإيمانِ، قال صلى الله عليه وسلم: فإن عادوا فعُدْ). وفيه وفي صبره وتحمّله الأذى، ونطقه ببعض كلمات الكفر إكراهاً تحت وطأة التعذيب والألم الشديد نزل قوله تعالى: (إِلَّا مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُۥ مُطمَئِنُّنُُ بِٱلإِيمَٰنِ).
وكان الرسول الكريم -عليه الصّلاة والسّلام- يمرّ على المسلمين وهم تحت التعذيب والتنكيل، فكان يمرّ على آل ياسر ويُصبّرهم ويعدهم بالجنّة جزاء صبرهم وتحمّلهم لما يواجهونه من طغيان الشرك وأهله، فقد عُذِّبوا جميعاً، واستُشهِدت سمية وهي عجوز كبيرة في السن بطعنة من أبي جهل، وما لبث أن استُشهِد فيما بعد زوجها ياسر وهو تحت التّعذيب؛ حيث لم يحتمل الضرب والتعذيب ومات على إثر ذلك -رضي الله عنه-.
أول شهيدة في الإسلام
إنّ أول شهيدة في الإسلام هي سُميّة بنت الخياط، زوجها ياسر بن عامر، وابنهما الصحابي الجليل عمّار بن ياسر -رضي الله عنهم جميعاً-، أسلمت هذه العائلة مع بدايات الدعوة الإسلاميّة وكانوا من ضعاف المسلمين، فلم يجدوا في بدايات الدعوة من يدافع عنهم ويحميهم، وقد تعرّض آل ياسر للتّعذيب والتنكيل، وكان رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- يمرّ عليهم فيقول: (صبرًا آل ياسرٍ، فإنَّ موعدَكم الجنةُ).
استشهاد سمية بنت الخياط
اشتّد إيذاء المُشركين للمسلمين الأوائل واشتدّ تعذيبهم لمن لا قوم له يحمونه ويدافعون عنه، وقد جاء في الرّواية عن مُجاهد بن جبر المكيّ -رضي الله عنه- قال: (أوَّلُ مَنْ أظهرَ الإسلامَ بمكةَ سبعةٌ؛ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وأبو بكرٍ، وبلالٌ، وخبابٌ، وصهيبٌ، وعمَّارٌ، وسميَّةٌ. فأمَّا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأبو بكرٍ فمنعهما قومُهما، وأمَّا الآخرونَ فَأُلْبِسُوا أدرعَ الحديدِ ثمَّ صُهروا في الشَّمسِ، وجاء أبو جهلٍ إلى سُميَّةَ فطعنها بحَربةٍ فقتلها).
وهكذا استشهدت سُميّة بنت الخياط والدة عمار بن ياسر-رضي الله عنهما- حينما مرّ عليها أبو جهل يُعذّبها ويسبّها ويشتمها، فردّت عليه وسخرت منه وممّا يفعل وأغضبته في الكلام، فجنّ جنونه وطعنها طعنةً أدّت إلى استشهادها، وارتقت شهيدةً إلى بارئها جلّ وعلا، لتكون بذلك أول شهيدة في الإسلام.
دروس المرأة المسلمة من استشهاد سمية
يُعتبر استشهاد سُميّة درساً عمليّاً للمرأة المسلمة في كل زمان ومكان، فاستشهادها -رضي الله عنها- يجعلها رمزاً لكل النّساء، وفيه رسالة واقعيّة حيّة لجميع النساء تقول لهن: إنّ للإسلام عليكنّ حقاً، وإنّ للدعوة إلى الإسلام عليكنّ حقّاً، فهذه سميّة، وهي امرأة عجوز مُسنّة، تصبر وتتحمّل التعذيب في سبيل الله، ثم تُقتَل وتستشهدُ ثابتةً على الحق صابرةً في سبيل الله ودينه، كما أنّه درس للمرأة المربية أن: أيتها المُسلمة العظيمة عليك أن تُربّي أبناءك على الإيمان وحب الإسلام، والتّضحية في سبيل نُصرة دين الله بالغالي والنفيس.