أنزل الله تعالى كتابه الكريم على عبده ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون خاتم الرسالات السماوية، وأخذ على نفسه سبحانه حفظ كتابه لتقوم به الحجة على الخلق، وتتضح به المحجة لأهل الصدق والحق فقال سبحانه: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: ٩]، فحفظه من أن يزاد فيه باطل مَّا ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه، وحفظه من شياطين الإنس والجن حتى لا يزيدوا فيه حرفا أو ينقصوه وليس في العالم كله كتاب هيئ له من وسائل الحفظ والصون لكل كلمة من كلماته ولكل حرف من حروفه ما هيئّ للقرآن الكريم, وقد يسر الله تعالى حفظه في الصدور، وجعل له حراسا في الرّق المسطور، فلايزال بحمد الله محفوظا أبد الأيام والدهور، وقد ثبت في الحديث القدسي من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: قال الله تعالى - في الحديث القدسي -: " إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ"
لقد نزل القرآن الكريم في أفضل بقعة، وأقدس زمان، على أفضل إنسان على وجه الأرض ألا وهو الحبيب - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاءه سفير رب العالمين إلى الرسل، وأمين الوحي جبريل عليه السلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يتعبد الله في غار حراء، فارتبطت الأرض بالسماء، وأضاء النور سائر الأرجاء، فدعونا نأخذ بداية الأمر من أقرب الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من فم الطاهرة الصدّيقة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت:" أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: "ما أنا بقارئ"، قال: " فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 1-3] "
شرّف الله -تعالى- أمة محمدٍ -صلّى الله عليه وسلّم- بحفظ كتابها الكريم، فقد قال الله تعالى: (إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظون حيث كان هذا الحفظ على شقّين؛ حفظٌ في الصدور، وحفظٌ في السطور، حيث تمّ حفظه في الصدور، من محمدٍ -صلّى الله عليه وسلّم- الذي كان يقرأ ويحفظ كلّ آيةٍ تنزل عليه، ثمّ يحفّظها ويحثّهم على حفظه، ثمّ حفظه ، وتوارثته الأمة جيلاً بعد جيل، دون أن ينقص منه أيّ حرفٍ، بسندٍ عالٍ إلى ربّ العزّة سبحانه، وتم حفظه أيضاً في السطور، بمراحلٍ ثلاثٍ، وفيما يأتي بيانها
كانت في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، الذي حرص على حفظ القرآن الكريم، وكتابته في السطور إضافةً لحفظه في الصدور، فقام باتّخاذ كتاب يكتبون كلّ ما ينزل عليه، ومنهم:الخلفاءالأربعة، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وأُبي بن كعب، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، الذين كانوا يكتبون على الصحف، والعسف، والرقاع، والحجارة، وغيرها من الأدوات، حيث كانت الكتابة حينها عبارةٌ عن كتابةٍ للآيات وترتيبها، ووضع كلّ واحدةٍ منها في مكانها الخاص من سورها، وبشكل متفرّقٍ، فلم تكن مجموعةً في مصحفٍ واحدٍ.
لقد كان الجمع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عبارة عن كتابة الآيات وترتيبها ووضعها فيمكانها الخاص من سورها؛ وكانت الكتابة متفرقة بين عُسُب[26]، وعظام وحجارة ونحوذلك حسبما تتيسر أدوات الكتابة.
كانت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فبعد وفاة النبي -صلّى الله عليه وسلّم- ارتدّت الكثير من قبائل العرب عن الإسلام، فما كان من الخليفة ابي بكر -رضي الله عنه- إلّا أن سعى لإعادتهم إلى الإسلام، حتى وصل الأمر لحدوث معاركٍ طاحنةٍ، شارك فيها عددٌ من الصحابة من حفّاظ القرآن، وقُتل فيها كذلك عددٌ منهم، فخشي الصحابة من ضياع شيءٍ من القرآن الكريم، بذهاب وموت حفظته وقرّائه، وبعد النقاش والتشاور بينهم، اتفق الصحابة على جمع القرآن الكريم في مصحفٍ واحدٍ، وكان ذلك بعد معركة التمامه في السنة الثانية عشرة بعد الهجرة، فتمّ اختيار الصحابي زيد بن ثابت -رضي الله عنه- للقيام بهذا الجمع؛ لأنّه من الحفّاظ المتقنين، ومن كتبه الوحي المشهورين، حيث شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، كما أنّه عُرف بعقله الرشيد، وورعه، وعظم أمانته، فجمع القرآن الكريم على أدقّ وجهٍ، وبالأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، فأجمعت الأمة على هذا الجمع، وتواتر، ثمّ أُطلق عليه اسم المصحف، فكان بذلك الخليفة الراشد أبي بكر الصديق، أول من جمع القرآن الكريم، وسمّاه مصحف.
كانت في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث اتسعت رقعة الخلافة الإسلامية في هذه المرحلة، وانتشر الصحابة والتابعون في مختلف الأقطار والأمصار، ينشرون كلام الله تعالى، ويعلّمونه للناس، كلٌّ منهم معتمداً حرفاً من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم، ولكن بعد مرور الأيام وقع شقاقٌ ونزاعٌ بين القرّاء فيما بينهم، وبين كتائب الجيش وغيرهم، في أحقيّة قراءة كلّ جهةٍ منهم، فقام عثمان ابن عفان -رضي الله عنه- خطيباً بالناس، وأمرهم بجمع كلّ ما عندهم من الصحف التي جُمعت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكلّف مجموعةً من الصحابة بنسخ مصاحفٍ منها، مراعين أثناء نسخ القراءت الأخرى، وذلك من خلال عدم وضع أي علامةٍ تقصر النطق بالآية على قراءةٍ واحدةٍ إن كان فيها أكثر من قراءةٍ، وبعد الانتهاء من كتابة المصاحف، قام عثمان بن عفان بإرسال نسخةٍ إلى كلّ ناحيةٍ، وترك نسخةً عنده، وبعث مع كلّ محصفٍ واحداً من الصحابه؛ ليقرئ الناس ويعلّمهم.