كلمة مَكَّ جاءت في مقاييس اللغة ؛ الْمِيمُ وَالْكَافُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى انْتِقَاءِ الْعَظْمِ، ثُمَّ يُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ، يَقُولُونَ: تَمَكَّكَتِ الْعَظْمُ: أَخْرَجَتْ مُخَّهُ، وَامْتَكَّ الْفَصِيلُ مَا فِي ضَرْعِ أُمِّهِ: شَرِبَهُ، وَالتَّمَكُّكُ: الِاسْتقصاء.
مكّة اصطلاحاً
تعدّدت الأقوال في معنى مكّة، واختلفت الآراء في سبب تسميتها، ومن ذلك:
مكة تمُكُّ الجبابرة، أي: تُذهِبُ نخوتهم.
مكّة من قولهم: قد امتكّ الفصيل ضرعَ أُمّه؛ إذا مصّ ضرع أمه مصّاََ شديداً، كنايةً عن ازدحام النّاس بها، وهذا قول لا يصحّ، لأنّه خطأ في التأويل، ولا يستقيمُ تشبيهُ مصّ ولد الناقة لثدي أمّه بازدحام النّاس.
مكّة من صفير المكّاء، وهو صوت طائر يأوي برياض الأرض؛ إذ كانت العرب في الجاهلية تقول: لا يتمّ حجّنا حتى نأتي مكان الكعبة، فنمكّ فيه.
قيل: سُمِّيت مكّة لأنّها تقع بين جبلَين مرتفعين عنها، وهي بينهما بمنزلة المكّوك، والمكّوك: اسم عربيّ، أو مُعرَّب، وقد جاء في كلام فُصحاء العرب.
سُمِّيت مكة؛ لأنّها مكان يقصده الناس؛ لعبادة الله -تعالى- فيها؛ فيأتونها من كلّ مكان، وهذا المعنى مُستنبَطٌ من قولهم: امتكّ الفصيل أخلاف الناقة؛ إذا شدّ إليه، وجذب جميع ما فيها، فلم يَتركْ فيها شيئاً، وهذا قول أهل اللغة.
سُمِّيت مكّة لأنّها لا يفْجُر بها أحدٌ، إلا بُكَّت عنقه؛ فكان لا يصبحُ إلّا وقد الْتوَتْ عنقه.
سُمِّيت مكّة من مكّ الثّدي أي: مصّه، وذلك مُستنبَط من ندرة الماء في مكّة؛ فقد كان أهلها يمتكّون الماء، أي: يستخرجونه.
قيل: إنّها تمكّ ذنوب من يأتيها مُتعبّداً، أي: تذهبُ بها وتزيلها، كما يمكّ الفصيل ثدي أمّه فلا يترك أو يذرُ فيه شيئاً.
قيل: سُمِّيت مكّة بهذا الاسم؛ لأنها تمكّ من ظلم واعتدى، أي: تنقصه.
مكانة مكّة
شاءت إرادة االله -عزّ وجلّ- أنْ يفضّل أماكن على أماكن، فكانت مكّة المكرمة مكاناً له قدسية خاصة عند جميع المسلمين في أنحاء العالم؛ وقد اختارها الله -عزّ وجلّ- لتكون محطّ أوّل بناء لعبادته في الأرض، فكان هذا المكان الطاهر قبلة لمُوحِّدي الله تعالى، تتّجه إليها قلوبهم في كلّ يوم، وفي بطن مكّة رفع إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- قواعد الكعبة الشريفة؛ لتكون مقرّاً ومستقرّاً لعباد الله تعالى، ومنها شعّ نور الإسلام إلى بقاع الدنيا؛ إذ شاءت إرادة الله -سبحانه- أنْ يُبعثَ من أهلها خاتم الأنبياء والمُرسَلين محمّد صلى الله عليه وسلم، وستبقى مكّة المكرمة مهوى أفئدة المؤمنين، ووجهة قلوب المسلمين؛ ففيها يجدون الأنس واللّذة بالقرب من الله تعالى.
فضائل مكّة المُكرَّمة
اختصّ الله -عز وجل- مكّة المكرمة بخصائص ومزايا كانت سبباً في كونها أفضل بقاع الأرض، وتظهر مكانتها وأهميّتها فيما يأتي:
مكّة قبلة أهل الإسلام، فإليها يتّجه المسلمون من كلّ مكان في صلاتهم، ولا قِبلة لهم سواها.
أقسم الله -تعالى- بها في موضعين من القرآن الكريم، وذلك في سورتَي البلد والتّين، حيث قال تعالى في سورة البلد: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)، وقال تعالى في سورة التين: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ).
حبّها في قلب النبيّ عليه الصلاة والسلام؛ فكانت أحبّ البلاد إلى قلبه، قال عليه الصلاة والسلام(واللهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللهِ، وأحبُّ أرضِ اللهِ إليَّ، ولولا أنّ أَهْلَكِ أخرَجوني منكِ ما خَرجتُ).
جعلها الله -سبحانه- بلداً آمناً، وجعلها مكاناً لأداء مناسك الحج، وحرّم فيها القتال، وسفك الدّماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يَحِلُّ لِأَحَدِكُم أنْ يَحْمِلَ بِمكةَ السّلاحَ)، ومنع كذلك التقاط اللقطة فيها، ونهى عن قطع الأشجار، وأمر بإيناس الطيور، ونهى عن إفزاعها.
اختارها الله -عز وجل- لتكون مكاناً لتنزُّل الوحي، وتثبيت أصول والتوحيد،الإيمان، وجعلها مُنطلَق رسالة الإسلام خاتمة الرّسالات.
توعّد المولى -سبحانه- بعذاب أليم كلّ من أراد فيها إلحاداً، أو شِركاً، أو سوءَ فعلٍ أو قولٍ، قال تعالى: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).
جعل الله -تعالى- أجر الصلاة في بيته الحرام بمئة ألف صلاة، ونهى عن استقبال القبلة ببول أو غائط.
حرّم الله -سبحانه- دخول مكّة المكرمة، و المدينة المنورة على المسيح الدجال؛ فلا يدخلها أبداً، وقد جعل الله على محيطها حرساً من الملائكة؛ لمنعه.
أسماء مكّة المُكرَّمة
أُطلِقت على مكّة المكرمة أسماء كثيرة، منها ما ورد في القرآن الكريم،وفي السنة النبوية، وكلام العرب، ومن ذلك:
أمّ القرى: حيث سمّاها الله -عز وجل- بهذا الاسم فيالقرآن الكريم، قال تعالى: (وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرى وَمَن حَولَها).
البلد الأمين: سمّاها المولى -عزّ وجلّ- البلد الأمين، وجاء ذلك في معرض القَسَم، حيث قال تعالى: (وَهَـذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ).
بكّة: ورد ذِكرها في القرآن الكريم بلفظ بكّة، حيث قال سبحانه: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)، وجاء أنّ بكّة هي موضعُ البيت، ومكّة هي ما حول البيت، وقيل: سُمِّيت بكّة لأنّ أقدم زائريها يبكّ بعضها بعضاً، وقيل: بكّة موضع البيت، ومكة هو الحرم كلّه، وقيل: بل بكّة يُقصَد بها: الكعبة والمسجد، ومكّة مكان يُطلَقُ على بطن الوادي الذي ذكره الله -تعالى- في سورة الفتح، حيث جاء: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا).
أسماء أخرى أُطلِقتْ على مكّة: النسّاسة، وأمّ رحم، والحاطِمة؛ لأنّها تُحطّم من استخفّ بها، والحرم، وصلاح، والبلد الأمين، والعرش، والقادِس؛ لأنها تُقدِّس من الذّنوب؛ أي تُطهّر، والباسّ؛ لأنها تبسّ، أي تحطّم المُلحدين، وقيل: تُخرِجهم.