بدأ اليهود يتحرَّكون، ويجمعون أعداء المسلمين؛ ليُشَكِّلوا معهم تحالفات، ويُعِدوا العُدَّة لغزوة جديدة ضِدَّ المسلمين. ومن أبرزَ مَنْ خرج من اليهود هما كبيراهما: سلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، إذْ تَوَجَّهوا إلى مكَّة مُحَرِّضين أبا سفيان؛ لِيُعِدَّ عُدَّته للقتال، ووعدوه بأن ينصروه، ومَنْ معه، إذا أقبلوا إلى المدينة مُقاتِلِين، فَوَعَدَهم أبو سفيان بالتحرُّك القريب، ولمْ يَكتَف بمنْ حوله من المشركين، بل انطلق إلى القبائل المجاورة يَسْتَنْصرهم، فأقبلت معه قبيلة غطفان، وبعض من القبائل الأخرى، كبني أسد، وبني زرارة؛ حتى بَلَغُوا حوالي عشرة آلاف مقاتل من المشركين، والكفار.
سَمِعَ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بأخبار تحرُّك اليهود، والمشركين، فاستشار أصحابه في أمر الحرب، حيثُ وصل عددهم إلى ما يراوح ثلاثة آلاف مقاتل، فأشار إليه الصحابيّ سلمان الفارسي -رَضِيَ الله عنه- بحفر خندق يَتَحَصَّنون به إذا وصل الأعداء، فأُعْجِب النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه بالفكرة الجديدة، وبدؤوا بحفر خندق حولهم يُحَصِّنهم من ثلاث جهات، وجعلوا خلفهم جبلاً يَحْمي ظهورهم. أمَّا النساء، والأطفال، والذراري (جَمْع ذُرِّية)، فقد أبقاهم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- داخل حِصْن في المدينة، واستخلف عليهم ابن أمِّ مكتوم؛ ليحرسهم، ويحميهم في غيبة رجالهم.
أحداث غزوة الخندق
تَمَحوَرَتْ أحداث غزوة الخندق بتحركاتٍ لأبي سفيان، ومن معه من المقاتلين، وبجهود المسلمين في حفر الخندق، وتحصين أنفسهم من عدوهم، ولقد كانت ظروف لقاء المسلمين بعدوِّهم صعبة جداً، إذْ اجتمع عليهم التعب، والجهد، والجوع والصبر على انتظار العدوّ. ومن الجدير بالذكر أنَّ جابراً -رَضِيَ الله عنه- وَصَفَ جانباً من حالهم، وهم مباشرون العمل، يحفرون الخندق، فقال مِمَّا قال في حديثٍ طويل: إنّ صخرة عظيمة صَعُبَ على المسلمين كسرها، وهم يحفرون، فأخبروا عنها رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فقام إليها؛ ليضربها بفأسه، وقد رَبَطَ على بطنه الحجر من شدَّة الجوع، ولم يَكُن قد أكل منذ ثلاثة أيام، فقام جابر إلى زوجته فسألها عن أيِّ طعام تُقَدِّمُه، فَوَجَدَ عندها صاعاً من شعير، وعناق (وهي صغير المعيز)، فذبحها، وحضَّرَها لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فنادى الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- إليها المهاجرين، والأنصار، فناول الجميع من خبز الشعير، وشيءٍ من اللحم؛ حتى أكل المسلمون كلهم، وشبعوا؛ ببركة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم.
وَصَلَ الأحزاب (المشركون والكفار)، ومنْ أتى مُقاتِلاً المسلمين إلى حيث مدخل المدينة، ففوجئوا بوجود الخندق، وهو شيء لم يكونوا يَعْهَدونه في الحرب، فحاولوا النزول إلى داخله، وقَطْعه؛ ليَصِلوا إلى المسلمين، لكنَّ المسلمين كانوا لهم بالمرصاد، يرمونهم بالنِّبال، فلم يستطع أحد الوصول إليهم، عندها خَيَّم الأحزاب أمام الخندق، ووَضَعُوا متاعهم، ومَكَثُوا ينظرون في حلٍّ جديد. إلى أنْ كان الحلّ فيما رأوا أن يُرْسِلوا خبراً إلى بني قُرَيْظة: وهم يهود المدينة الذين لم يخرجوا إلى القتال، بل بَقَوا في المدينة، فأرسلوا إليهم يحثُّونهم على الانضمام إليهم في قتال المسلمين؛ بُغْيَة إنهاء شوكتهم، والقضاء عليهم. وقد حصل فعلاً ما سألوا؛ إذْ جاء الترحيب من يهود بني قُرَيْظة بالتعاون مع الأحزاب ضدَّ المسلمين، فاشْتَدَّ الأمر على المسلمين أكثر، خصوصاً أنَّ نساءهم وأطفالهم في المدينة حيث يَقْطُن يهود بني قريظة.
استمرّ هذا الحال الصعب على المسلمين، وهم محاصرون في مكانهم، بعيدين عن نسائهم وأطفالهم، مُدَّة زادت عن الشهر، إلى أنْ أرسل الله -تعالى- في تلك الفترة الصعبة من لَدنه رجلاً من اليهود أعلن إسلامه، وهو الصحابي نَُعَيْم بن مسعود -رضي الله عنه-، حيثُ أَتَى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- سِرّاً يُخْبِره بإسلامه، فطلب إليه النبيّ -عليه السلام- أن يعود إلى خِيام المشركين، وينشر بينهم الشائعات، ويَضَع من معنوياتهم مع طول مدة الحصار، وفِعْلاً ذهب نُعيم إلى بني قريظة، وخَوَّفهم من انسحاب الأحزاب، وأشار إليهم أن يأخذوا رهائن منهم؛ حتى يضمنوا بقاءهم عند وعدهم بالنصرة، ومقاتلة المسلمين، ومن جهة أخرى ذهب إلى اليهود وكفار قريش، فأشاع بينهم خبر ندم بني قريظة على نصرتهم، وأخبرهم بأنَّهم اتفقوا مع النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على أخذ رهائن، وأسرى مقابل أن يغفرلهم زلتهم. هكذا حَرَّضّ هؤلاء على هؤلاء، وهؤلاء على هؤلاء، فصار كل حليف يُشَكِّك في حليفه؛ بِسَبَبِ حيلة نُعَيم بن مسعود.
تاريخ غزوة الخندق
وقعت أحداث غزوة الخندق في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة النبويّة.