حدثت غزوة تبوك في شهر رجب من العام التاسع للهجرة، ويرجع سببها إلى أنّ هرقل ملك الروم ونصارى العرب عزموا على الهجوم على المدينة المنورة، فلمّا وصلت الأخبار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أمر المسلمين بالتجهّز للحرب، فتجمع حشدٌ كبيرٌ بلغ عددهم الثلاثين ألفاً على الرغم من شدّة الحر، ومحاولات المنافقين لتوهين المسلمين وصرفهم عن المشاركة في الغزوة، والفقر الذي كان يعصف بهم، فكان لأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعاً، الفضل العظيم في التصدّق بأموالهم، والإنفاق في سبيل الله، ثمّ تجمّع الجيش في ثنيّة الوداع، فكان شوكةً في أعين المنافقين، وتوجّه ذلك الجيش إلى تبوك؛ ليقاتل الروم، فلمّا وصلوا إلى هناك كانت المفاجأة؛ حيث لم يجدوا الروم ولا نصارى العرب، فأقام رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- والمسلمون في تبوك بضع عشرة ليلةً، أتى إليه خلالها صاحب أيلة وصالح على دفع الجزية، بالإضافة إلى إرساله -عليه الصّلاة والسّلام- سريّةً بقيادة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- إلى دومة الجندل، حيث أسر خالد صاحبها أكيدر، فلما جاء به إلى تبوك صالح على دفع الجزية، فأطلق النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- سراحه.
سبب تسمية غزوة تبوك بغزوة العسرة
سمّى الله تعالى غزوة تبوك في القرآن الكريم بساعة العسرة، حيث قال تعالى:( لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِىِّ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ وَٱلْأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ .)؛ وذلك لما حفّها من المشقة، والمصاعب، والعسرة.
مواقف المنافقين في غزوة تبوك
كان للمنافقين مواقف عديدةٌ في غزوة تبوك، منها:
دعوة المسلمين إلى الركون إلى الدنيا، وتخذيلهم عن النفير مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لتلك الغزوة، حيث كانوا يذكّرون الناس بالحرّ الشديد، وقطف الثمار، وظلال الأشجار، كما قال تعالى: ( فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓا۟ أَن يُجَٰهِدُوا۟ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُوا۟ لَا تَنفِرُوا۟ فِى ٱلْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا۟ يَفْقَهُونَ .)، فتخلّف عددٌ من المنافقين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
محاولة اغتيال النبيّ عليه الصّلاة والسّلام؛ حيث قام إثنا عشر راكباً بمزاحمة ناقته في العقبة؛ ليلقوه منها، إلا أنّ حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- نبّه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- للأمر، فصاح بهم فولّوا مدبرين، فأحبط الله تعالى مخطّطهم الخبيث، وأطلع رسوله عليهم، ولكنّه لم يأمر بقتلهم؛ حتى لا تقول العرب أنّ محمداً يقتل أصحابه، حيث قال تعالى( يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُوا۟ وَلَقَدْ قَالُوا۟ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُوا۟ بَعْدَ إِسْلَٰمِهِمْ وَهَمُّوا۟ بِمَا لَمْ يَنَالُوا۟ وَمَا نَقَمُوٓا۟ إِلَّآ أَنْ أَغْنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضْلِهِۦ فَإِن يَتُوبُوا۟ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا۟ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ مِن وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ) ..
صور العسرة التي أحاطت بتلك الغزوة
بُعد المسافة بين المدينة وتبوك، وقلّة الماء، وصعوبة الطريق ووعورتها، ودلّ على ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (خرجنا إلى تبوك في قيظٍ شديدٍ، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أنّ رقابنا ستتقطّع، حتى إنّ الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى نظنّ أن رقبته ستنقطع، حتى إنّ الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده)، فطلب أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- من رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أن يدعو لهم، فرفع يديه إلى السماء وما أنزلها حتى أظلّتهم سحابةٌ وأمطرت، فملؤوا ما معهم ولم تجاوز تلك السحابة معسكرهم.
قلّة الزاد، حيث روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أنّه كان مع رسول الله في تلك الغزوة، فلمّا نفد ما عند الناس من طعامٍ، أرادوا أن يذبحوا
الإبل التي تحملهم، ولكنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اقترح على النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- أن يجمع ما بقي مع الناس من الطعام، ثمّ يدعو رسول الله عليه بالبركة بدلاً من ذبح الإبل المخصّصة للركوب، فدعا رسول الله على ذلك الطعام بالبركة، فبارك الله تعالى فيه، حتى ملأ الناس أوعيتهم من ذلك الطعام.
شحّ الدّواب التي يُركب عليها، حيث وصف الحسن البصري قلة الظهر في تلك الغزوة، فقال: (كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعيرٍ يتعقّبونه بينهم، وكان زادهم التمر المتسوس والشعير المتغير، والإهالة المنتنة، وكان النفر يخرجون وما معهم إلا التمرات بينهم).
وقت الخروج للمعركة، حيث كان في شهر رجب من العام التاسع للهجرة، وكان الحرّ شديداً، والرمال ساخنةً، ووهج الشمس لافحاً، والمقام في المدينة قد طاب؛ ففيها الماء البارد، وثمار الصيف اليانعة، فكان الخروج في ذلك الوقت بالتحديد اختباراً عظيماً، للإيمان ولتقديم مرضاة الله تعالى على لذّة الحياة والاستمتاع بها.
قلّة ما وجد المسلمون للتجهّز للمعركة؛ إذ إنّ أبا موسى الأشعريّ -رضي الله عنه- جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ ليطلب منه تجهيز الأشعريّين، فلم يجد إلا ستّةً من الإبل أعطاها له ليحمل قومه عليها، وممّا دلّ على قلّة العُدّة والعتاد، أنّ سبعةً من فقراء الصحابة جاءوا إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وهم راغبون بالجهاد في سبيل الله، فطلبوا منه ما يخرجون عليه معه في تلك الغزوة، فلم يجد ما يحملهم عليه، فبكوا لذلك حتى عُرفوا فيما بعد بالبكّائين، وأنزل الله تعالى فيهم قوله: ( وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا۟ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا۟ مَا يُنفِقُونَ).