لم يتقبلْ أهلُ مكةَ فكرةَ الإسلامِ في بداية الدعوة إليه، فقاموا بمحاربةِ كلّ من يعتنقُ الدينَ الجديد، وعذَّبوا المسلمين وقاموا بالتنكيل بهم؛ ليجبروهم على تركِ هذا الدين، ولم يسلمْ الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم من أذيَّةِ أهل مكة، الأمر الذي جعله يفكرُ في الهجرةِ من مكةَ إلى المدينة، حيث رحَّبَ أهلها بأن يستقبلوا دعوته، وسرعان ما هاجر أهل مكة تاركين أموالهم وبيوتهم وممتلكاتهم خلفهم؛ سعياً وراء الدين الجديد، بهجرةٍ خالصةٍ لوجه الله تعالى، وعلى الرغم من أنَّ أهل المدينة المنورة قدموا كل شيء لإخوانهم المهاجرين، إلاَّ أنَّ المهاجرين ومعهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم كانوا يتعفَّفون، ويفكرون بأموالهم التي تركوها خلفهم في مكة، فينظرون إلى قوافل أهل قريش التجارية، والتي رأوا أن أموالهم كانت ضمن الأموال المُستخدمة في تجارة قريش (كانت قريش مشهورة جدا بالتجارة، حتى أنه قد ذكر في القرآن الكريم شيئا عن رحلاتهم التجارية، وذلك في سورة قُريش)، وفي يومٍ خرجَ الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبعض أصحابه، لاعتراض قافلة تجارية كبيرة لقريش وهي في طريقها من مكة إلى الشام، لكنهم لم يدركوها، ولمَّا اقتربت عودة تلك القافلة بعثَ الرسول صلّى الله عليه وسلّم طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد (رضي الله عنهما)؛ لكي يقوما باكتشاف خبر تلك القافلة، وفي منطقةٍ تُسمى (الحوراء) شاهدوا قافلةَ قريش، وكان أبو سفيان يحرُسها مع ثلاثين رجلاً، فأسرعوا إلى المدينة ليخبروا الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنها، ولما تأكد الرسول صلّى الله عليه وسلّم من خبر هذه القافلة، أمر المسلمين بالخروج لاعتراض تلك القافلة وقال صلّى الله عليه وسلّم (هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليهم لعلَّ الله ينفلكموها)، ولم يكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يعلم أنه خارجٌ للقتال، لذلك بقي الكثير من المسلمين في المدينة ولم يخرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلم.
معركة بدر
في السابعِ عشر من شهرِ رمضان للسنةِ الثانية للهجرة، الموافق الثالث عشر من مارس/ آذار، للعام الميلادي ستمائة وأربع وعشرون (624م)، وقعت معركةٌ فاصلةٌ في تاريخِ الإسلام بين المسلمين (بقيادة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم)، وبين قبيلة قريش وحلفاءها (بقيادة عمرو بن هشام المخزوميّ القرشيّ)، قُربَ بئر ماءٍ في منطقةٍ تُسمّى بدر، فسمِّيت تلك المعركة باسم المنطقة التي دارت فيها (معركة بدر)، وهي أول معركةٍ قامت في تاريخ المسلمين، حيث انتصر المسلمون فيها على قبيلة قريش وحلفاءِها، وللمعركةِ هذه أهمية كبيرة في تاريخِ الإسلام؛ فبعدها قَوِيَتْ شوكتُهم في المدينة المنوّرة وفي محيطِها، فما هو سبب هذه المعركة؟ وكيف دارت المعركة؟ وما هي نتائج تلك المعركة؟ كل هذا وأكثر سوف نتعرف عليه في هذه المقالة.
خروج المسلمين
لقد خرج مع الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم ثلاثمائة مسلمٍ ونَيِّف، بين مهاجرٍ وأنصارِّي، ولم يحملوا العُدَّة اللازمة للقتال، ولم يكن معهما إلاَّ فرسان وسبعين بعيرا كانوا يتناوبون على ركوبها، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتناوب على ركوب بعيرٍ واحد مع علي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي (رضي الله عنهما)، وقام الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم بتسليم مصعب بن عمير لواء القيادة العامة، وقام بتقسيم المسلمين إلى كتيبة المهاجرين بقيادة علي بن أبي طالب، وكتيبة الأنصار بقيادة سعد بن معاذ، وقيادة الميمنة للزبير ابن العوَّام، أمَّا قيادة الميسرة فتركَها للمقداد بن عمرو، في حين أبقى لنفسه القيادة العامة.
خروج أهل قريش وحلفاءهم
عَلِمَ أبا سفيان بخبرَ خروجِ الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، معترضين قافلته، فقام بتحويل مسارها إلى طريق ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر)، وأرسلَ ضمضم ابن عمرو الغفاري إلى أهل قريش، فيطلب منهم أن يخرجوا لكي ينقذوا أموالهم، فاستجاب أهل قريش لهذا الخبر بأن جهزوا أنفسهم وخرجوا دفاعا عن تجارتِهم، فخرج منهم أكثر من ألفٍ وثلاثمائة مقاتل، وكان قائدهم العام هو عمرو بن هشام (أبو جهل)، وكان معهم مائة فرسٌ وجمالٌ كثيرة، وفي مسيرِهم بلغهم أنَّ أبا سفيان قد أنقذ القافلة، وأمرهم أن يعودوا لمكة، لكنَّ أبا جهلٍ أبى ذلك، وأمر جيشه بالذهابِ إلى بدر؛ لكي يتم الاحتفاء بهذا الخروج، وأيضا لكي تهابهم العرب والقبائل المجاورة، وفي ذلك قال (والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزور، ونطعم الطعام ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا).
استقبال المسلمين خبر خروج قريش
عَلِمَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّ أبا سفيانٍ قد نجا بالقافلة، وأنَّ قريشاً قد جمعت نفسها في منطقةِ بدر، فخافَ بعضُ المسلمين من ملاقاةِ جيش قريش؛ لقلة أعدادهم مقارنة بجيش قريش، إلاَّ أنَّ البعض الآخر ومنهم (أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، والمقداد بن الأسود)، أجمعوا على ضرورةِ مُلاقاة جيش قريش، وقد قالَ المقداد بن الأسود للرسول صلّى الله عليه وسلّم (يا رسول الله، لا نقول كما قال قوم موسى، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك وخلفك)، وأرادَ الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يعرفَ ما هو رأيُ الأنصار، فعبَّر سعد بن معاذ عن رغبة الأنصار في نصرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، فتحركَ الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم نحو بدرٍ ليسبق المشركين، وليسيطر على مائها قبلهم.
استعدادُ المسلمين للمعركة
أشارَ الخباب ابن المنذر على الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن ينزلوا عند أقربِ نقطةِ ماءٍ لجيشِ قُريش، وأن يقوموا ببناء الحِيَاض ومَنَعِ الماء عنهم، ففعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذلك، ثم اقترح سعد ابن معاذ أن يتم بناء عريش كمركزٍ للقيادة، فَبُنِيَ للرسولِ صلّى الله عليه وسلّم عريشاً، وكان أبا بكرٍ معه، وكان بعضٌ من شبابِ الأنصار يقومون بحمايته، فأنزلَ اللهُ على المسلمين النُعَاسَ والطمأنينة فناموا، وبقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبكي ويدعو الله طيلة الليل، وفي الصُبحِ قامَ الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم بِصَفِّ المسلمين بأن جعلَ الشمسُ خلفهم، فتكون الشمسُ في عينِ الأعداء، ثم رَتَّبَ الصفوفَ ونظَّمها، ثم قام بتحريضِ المسلمين على القتال، مع توجيه النصيحةِ لهم، فلا يُسرِفوا في الرمي، ولا يرموا الأعداء من بعيد، ولا تُسَلّ السيوف إلاَّ حين تتداخلُ الصفوف.
كيف دارت المعركة
خرجَ الأسود بن عبد الأسدِ من قريش إلى المسلمين، فأراد إمَّا أن يشربَ من حوضِ الماء الذي أعدَّه المسلمون، أو أن يهدمَه أو أن يُقْتَل، ولمَّا وصلَ خرج له حمزة ابن عبد المطلب، فقتله، ثم خرجَ ثلاثةٌ من قريش، وهم (عُتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد ابن عتبة)، وطلبوا من المسلمين المُبَارزة، فأمرَ الرسول صلّى الله عليه وسلّم حمزة بن عبد المطلب فقاتل عُتبة وقتله، وعلي ابن أبي طالب فقاتل الوليد فقتله، وعبيدة بن الحارث فقاتل عتبة، فأصاب كل منهما الآخر، فانقضَّ عليٌ وحمزة على عتبةِ فقتلوه، ثم استشهد عبيدة، فهجمَ جيشُ قريشٍ على المسلمين هجوماً عاماً، فتصدَّى لهم المسلمون وهم واقفون في أماكنِهم يقولون أحدٌ أحد، ثمَّ أمرَ الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم المسلمين بالهجوم، قائلاً لهم (شدوا).
نتائج المعركة
ألحقَ المسلمون هزيمةً كبيرةً بجيشِ قُرَيش، فقتلوا منهم سبعين منهم (أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وأمية بنت خلف)، أَسَرُوا سبعين آخرين.
استشهدَ من المسلمين أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.
قَوِيَت شوكةُ المسلمين في المدينة المنورة، وفي كافةِ أرجاء الجزيرة العربية.
انتفعَ المسلمون بغنائمِ الحرب التي اغتنموها من جيشِ قُريش.
أصبحت المدينة المنورة مركز قوةٍ يُهدِّدُ مكة وتجارتها.