كان لهجرة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- من مكة المكرة إلى المدينة المنورة العديد من الدوافع والأسباب، فقد تحمّل المسلمون في مكّة المكرّمة الأذى والتنّكيل والتّعذيب والاضطهاد من كفّار قريش، ممّا دفع النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ومن آمن معه من أهل مكّة إلى طلب اللجوء والهجّرة إلى مكان يحتضن الدعوة الإسلاميّة؛ قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ*الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، وقد وقع الاختيار على المدينة المنوّرة لتكون دار الهجّرة التي ستؤوي المؤمنين بدين الله تعالى، وفي أحد مواسم الحج عرض النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- على جماعةٍ من قبيلتي الأوس والخزرج بأن تكون المدينة المنوّرة حاضنةً للدّعوة الإسلاميّة، فكانت بيعة العقبة.
سبب تسمية بيعة العقبة
سُمّيت بيعة العقبة بهذا الاسم لأنّ مُبايعة الوفد القادم من المدينة المنوّرة للنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- كانت في منطقة تسمّى العقبة، ولذلك فقد أخذت البيعة اسم ذلك المكان، وبيعة العقبة حصلت مرّتين في ذات الموضع؛ ولذلك أُطلق على البيعتين اسما: بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثّانية، وقد شارك في بيعة العقبة الأولى اثنا عشر رجلاً من الأوّس والخزرج، وكان من أبرزهم الصحابيّ الجليل عبادة بن الصّامت.
بيعتا العقبة الأولى الثانية
بيعة العقبة الأولى
بايع النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في بيعة العقبة الأولى قبيلتي الأوس والخزرج، وقد كان فيها عدّة نقاط بارزة، إلّا أنّها خلت من القتال أو الجهاد، ولذلك سُمّيت بيعة النّساء، وقد حضرها اثنا عشر رجلاً؛ عشرة من قبيلة الخزرج، منهم: عبادة بن الصامت، وعوف بن الحارث الخزرجيّ، واثنان من الأوس؛ هما: عويم بن ساعدة الأوسيّ، وأبو الهيثم بن التيهان الخزرجيّ، وقد أصبح وفد الأوس والخزرج في هذه البيعة هم نواة أنصار المدينة فيما بعد، وقد أصبحت لهم مكانة عظيمة؛ بسبب مبايعتهم للنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يوم العقبة.
بنود بيعة العقبة الأولى
جاء في بيعة العقبة الأولى عدّة بنود رئيسة، وقد ذكر هذه البنود الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه، حيث قال: (بايِعوني على أن لا تُشرِكوا باللهِ شيئاً، ولا تَسرِقوا، ولا تَزنوا، ولا تقتُلوا أولادَكم، ولا تَأتوا ببُهتانٍ تفتَرونه بين أيدِيكم وأرجُلِكم، ولا تَعصوا في معروفٍ)، ومن أبرز البنود التي جاءت في هذه البيعة ما يأتي:
عدم الشرك بالله تعالى، وتوحيده وإفراده بالعبوديّة.
عدم اللجوء إلى السرقة أبداً.
تحريم الزنا، وعدم الاقتراب منه.
عدم قتل الأولاد كما كانت العرب تفعل في الجاهليّة من وأد البنات، وعدم قتل الأولاد خشية الفقر.
عدم الكذب على النّاس.
عدم عصيان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
بيعة العقبة الثانية
بعد أن بايع النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وفد الأوس في السنة الثانية عشرة من البعثة النبويّة الشريفة، أرسل معهم الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- الصحابيّ الجليل مصعب بن عُمير رضي الله عنه؛ ليُفقِّههم في الدّين، وينشر الإسلام ويُهيئ المدينة المنوّرة لمجيء النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إليها، وبعد سنة جاء وفد عظيم من أهل المدينة لمُبايعة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في بيعةٍ أخرى سمّيت ببيعة العقبة الثّانية.
وقد شارك في بيعة العقبة الثّانية ثلاثة وسبعون رجلاً، جلُّهم من قبيلتي الأوس والخزرج، وقد رافقهم في هذه البيعة امرأتان، فأصبح مجموع المبايعين للرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- خمسة وسبعون شخصاً، والنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لم يُصافح النساء في هذه البيعة، فقد كانت مباعيته لهنّ بأخذ الإقرار منهنّ، فإن أقررن قال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: (قد بايعتكن)، وذلك يُشير إلى اهتمام النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بأحكام الشريعة الإسلاميّة، فمصافحة النّساء أمر منهي عنه، وقد حوت هذه البيعة في بنودها مبايعة الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- في السّلم والحرب، ولذلك سُمِّيت هذه البيعة بيعة الحرب، فقد بايع الأنصار رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- على النُّصرة والتضحية لدينالإسلام.
بنود بيعة العقبة الثّانية
كان في بيعة العقبة الثانية بنوداً لم تكن في بيعة العقبة الأولى، ومن البنود التي جاءت فيها ما رواه الصحابيّ جابر بن عبدالله رضي الله عنه؛ حيث قال الأنصار لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (يا رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على ما نُبايِعُكَ؟ قال: تُبايِعوني على السمعِ والطاعةِ في النشاطِ والكسلِ، وعلى النفقةِ في العُسرِ واليُسرِ، وعلى الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المُنكَرِ، وعلى أن تقولوا في اللهِ لا تأخُذُكم فيه لومةُ لائمٍ، وعلى أن تَنصُروني إذا قدِمتُ عليكم يَثرِبَ فتَمنَعوني ممّا تَمنَعونَ منه أنفسَكم وأزواجَكم وأبناءَكم ولكم الجنّةُ)، وبناءً على ذلك تكون بنود بيعة العقبة الثّانية كالآتي:
السّمع والطاعة المطّلَقين للنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بجميع ما يصدر عنه من أقوالٍ وأفعالٍ وأوامرٍ.
إعانة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في الإنفاق على الدّولة الإسلاميّة، وما يلزم لتسيير الجيوش وتجهيزها، وتسيير أمور الأمّة الإسلاميّة.
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
نُصرة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ممّا يواجهه من الأخطار من أعدائه، ونُصرته في العارك والغزوات ضدّ المشركين.