لفظ الجمع في اللغة العربيّة مصدرٌ يدلّ على القيام بعمليّة الجمع، فيُقال: جمعتُ الشيء؛ أي جمعته كلّه جميعاً، وجاء بزيادة الهمزة؛ كقول: أجمعت الشيء؛ أي جعلته مُجمّعاً في مكانٍ واحدٍ، ويُقصَد به أيضاً: الضمّ؛ أي ضمّ الشيء بعضه إلى بعض، وهو تجميع الشيء المُفرّق، وجَعْله مُؤلّفاً، أمّا في الاصطلاح الشرعي فيُراد به معنيان، بيانهما فيما يأتي:[٥] المعنى الأول: جمع كلام الله -تعالى- في الصدور غَيباً عن ظهر قلبٍ، حيث قال -تعالى-: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ). المعنى الثاني: كتابة كلام الله في السطور، ويدلّ على ذلك قول عمر -رضي الله عنه- لأبي بكرٍ: "وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن"، وقول أبي بكر لزيدٍ بن ثابت -رضي الله عنهما-: "فتتبّع القرآن فاجمعه"؛ أي اجعله كلّه مكتوباً مجموعاً معاً.
المرحلة الأولى:
كانت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، حيث إنّ الصحابه-رضي الله عنهم- كانوا يجمعون القرآن الكريم عن طريق حفظه في صدورهم، بالإضافة إلى كتابته في صحفٍ متفرقةٍ من جريد النخل، وهو ما يسمّى بالعسب، والحجارة الرقيقة التي كانت تسمى باللخاف، والرِقاع وهي الأوراق، والجلد، وعظام الأكتاف، والأضلاع، وبعد ذلك كانوا يجمعون ما كتبوه في بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفي الحقيقة إنّ القرآن الكريم لم يجمع خلال حياة النبي -عليه الصلاة والسلام- في مصحفٍ واحدٍ، بل كان متفرّقاً بين الرِقاع، والعسب، والعظام، ويرجع السبب في عدم جمعه إلى أنه نزل مفرّقاً خلال ثلاثٍ وعشرين عامٍ حسب الحوادث، وكان يُنسخ منه ما أراد الله -تعالى- له أن يُنسخ، بالإضافة إلى أنّ الكثير من الصحابة كانوا يحفظونه في صدورهم، ممّا جعل فتنة تحريفه مأمونةً في ذلك الوقت.
المرحلة الثانية:
كانت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- أول من أشار على الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجمع القرآن الكريم في مصحفٍ واحدٍ، ويرجع السبب في ذلك إلى خوفه من ذهاب شيءٍ من القرآن الكريم بعد استشهاد الكثير من حفّاظ القرآن الكريم في معركة اليمامة، فاستجاب أبو بكر -رضي الله عنه- إلى المشورة، وأمر زيد بن ثابت -رضي الله عنه- بجمع القرآن الكريم، فقام زيد بن ثابت -رضي الله عنه- بتجميع القرآن الكريم من الرقاع، والعسب، وممّا حفظه الصحابة -رضي الله عنهم- في صدورهم، فجمعه مرتباً لآيات سوره على ما وقفه عليه الرسول-عليه الصلاة والسلام- في مصحفٍ واحدٍ، وبقي ذلك المصحف عند أبي بكر الصديق حتى توفّاه الله، ثمّ عند عمر بن الخطاب حتى استشهد، ثمّ عند ابنته حفصهرضي الله عنها.
المرحلة الثالثة:
كانت في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث كان الجمع جمعاً للقرآن على حرفٍ واحدٍ بعدما كان يُقرأ على سبعة أحرفٍ في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وعهد أبي بكر الصديق، ويرجع السبب في ذلك الجمع إلى اتساع الدولة الإسلامية في عهد عثمان رضي الله عنه، ودخول الناس في الاسلامأفواجاً من كلّ حدبٍ وصوبٍ، ممّا أدّى إلى اختلاف القرّاء، فقام الناس بمراسلة الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وناشدوه بجمع الكلمة، قبل أن يتفاقم الأمر، بالإضافة إلى قدوم حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- من غزوة أرمينية، ومخاطبته بأمر الجمع أيضاً، فما كان من عثمان -رضي الله عنه- إلّا أن استشار المهاجرين والانصار في جمع القرآن الكريم في مصحفٍ واحدٍ على حرفٍ واحدٍ، فوافقوا على ذلك، فأرسل إلى حفصة رضي الله عنها، وطلب منها إرسال الصحف التي عندها؛ لينسخها في مصاحف، فأرسلتها، وأمر زيد بن ثابت والرهط القرشيين فنسخوها في المصاحف، وبعث بها إلى الأمصار، وأمر بحرق ما سوى ذلك من المصاحف.
بعد أن أمر عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بنسخ المصاحف، استجاب الصحابهكلّهم لأمره، وأيّدوه على ذلك، إلّا ما كان من عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه؛ حيث أنكر ذلك في بداية الأمر؛ لأنّ الخليفة عثمان بن عفان اختار زيد بن ثابت بسبب الميزات التي يمتلكها لكتابة المصاحف ولم يختاره هو، ولكن سرعان ما رجع ابن مسعود رضي الله عنه، وأقرّ ما فعله عثمان، وأجمع الصحابة على موافقته، وممّا نُقل من أقوال الصحابة تعليقاً على جمع القرآن، قول علي ابن ابي طالب رضي الله عنه: (لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت بالمصاحف كما فعل عثمان).