نزل القرآن الكريم من السماء إلى الأرض بواسطة جبريل عليه السلام؛ لإرشاد الناس إلى عبادة الله تعالى، بإقامة الحجّة عليهم، فقد أرسل الله تعالى الرسل مُبشرين بالجنة عند طاعة الله تعالى، ومنذرين من غضبه وعذابه عند معصيته والابتعاد عن أوامره، وقد شاء الله تعالى أن يُؤيد رسله بالمعجزات؛ حتى لا يقوم الناس بادّعاء النبوة دون وجود ما يدل على صدقهم، فقد أيّد الله تعالى نبيه محمّداً -صلّى الله عليه وسلّم- كغيره من الرسل بالقرآن الكريم الذي يتّصف بالإعجاز؛ لعجز الجميع عن الإتيان بمثله، واعترافهم بعظمته، وقد كانت مُعجزات الانبياء من جنس ما اشتُهر به أقوامهم، فقد اشتهر العرب في زمن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بالفصاحة والبلاغة، فأنزل الله القرآن وتحدّى به العرب الذين أثبتوا عجزهم عن بلوغ ما وصل إليه من الفصاحه والبيان، ولا يزال هذا التحدي قائمٌ إلى قيام الساعة، وانفردت معجزة القرآن عن معجزات الأنبياء السابقين بكونها خالدةً الى آخر الزمان، وقد تعهّد الله تعالى بحفظه، يقول الله تعالى: (إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ)،ومن الجدير بالذكر أنّ أول ما تنزّل من القرآن على قلب النبي -صلّى الله عليه وسلم- كانت آيات داعيةٌ إلى العلم عن طريق القراءة، وفي ذلك إشارةٌ واضحةٌ لمكانة العلم في رفعة الأُمم، كما أثبتت الآيات الأُولى صفة الخلق لله تعالى، وفي ذلك إزالةٌ للالتباس من فؤاد النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بإرشاده إلى خالق الكون، وإلى كيفية عبادته
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُحبّ سماع القرآن من غيره، فقد طلب مرّةً من عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن يقرأ عليه القرآن، فقرأ عليه من سورة النساء، حتى وصل إلى قول الله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا)، فإذا عيناه تذرفان، فسماع القرآن الكريم من الأمور المستحبّة، ويتدرج هذا السماع إلى ثلاث مراتب؛ أعلاها الاستماع الذي يُتبع بالإجابة والقبول، يليه الاستماع المُشتمل على حسن الفهم والتدبر ثمّ الاستماع المجرّد، وقد أدرك السلف عظمة القرآن الكريم، فقد كانوا يرون الآيات رسائل من الله تعالى إليهم، فكانوا إذا جاء الليل أقبلوا على آياته فهماً وتدبراً، وإذا كان النهار طبّقوا ما فهموه، والتمهّل في القراءة واستحضار القلب من أكثر ما يُعين على فهم الآيات وتدبّرها،وكما أنّ القارئ للقرآن يتعبّد بقراءته، فإنّ السامع للآيات يتقرّب إلى الله بسماعه، فقد كان دأب الصالحين الاستماع لتلاوة القرّاء الذين يتميّزون بحُسن الصوت، وإتقان احكام التجويد فالتلاوة المُجوّدة تُعين على فهم معاني الآيات، فمن فوائد سماع القرآن الكريم نيل رحمة الله تعالى، حيث قال تعالى: (وَإِذا قُرِئَ القُرآنُ فَاستَمِعوا لَهُ وَأَنصِتوا لَعَلَّكُم تُرحَمونَ) فقد أوجب الله تعالى الرحمة لمن يستمع لآيات القرآن، كما أنّه يزيد الإيمان ويقوّي البصيرة، على أن يكون الاستماع مُقيداً بترك جميع المُلهيات عن التدبّر، مع الحرص على حضور القلب، ومن لم يستمع فقد فاته الكثير من الخير، وقد أخبر النبي -صلّى الله عليه وسلّم- عن فوائد مجالس القرآن بقوله: (ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ، يتلون كتابَ اللهِ، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلتْ عليهم السَّكينةُ: وغَشِيَتْهم الرحمةُ، وحفَّتهم الملائكةُ، وذكرهم اللهُ فيمن عندَه)،كما أنّ الاستماع إلى القرآن الكريم من أقوى أسباب الهدايه للجن والإنس، فاستماع القرآن يهدي القلوب إلى السلام، ويهدي العقول إلى الرُشد؛ لاتّبعاهم أحسن الأقوال التي تُرشدهم إلى ما ينبغي اتّباعه، واجتنابهم عمّا ينبغي عليهم اجتنابه، وورد عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنّه قال عن فضل سماع القرآن: "لو سلمت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم"، فمن عاش مع القرآن الكريم تلاوةً وسماعاً فقد فاز برضى الله تعالى ورحمته، فهو فضل الله ينعم به على من يشاء من عباده، ويحدث التأثّر بترديد الآيات بالقلب لتدبّر معانيها، وأن يحرص القارئ على استشعار أنّه المُخاطب بكلام الله سبحانه، فإذا مرّ بآيات النعيم تلذّذ وكأنّه من أهلها، وإذا مرّ بآيات العذاب استعاذت بالله منها، وإذا مرّ بالآيات التي تصف عظمة الله تفكّر بعجيب قدرة الله تعالى.
نقل القرآن الكريم الصحابة من الغلظة والقسوة التي كانت لديهم في الجاهلية إلى رقة القلوب، فكانوا إذا سمعوا القرآن وجِلت قلوبهم، واقشعرت جلودهم، ودمعت عيونهم، فعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يُسمع له نشيج إذا تُليت عليه الآيات، فقد كان للقرآن الكريم انعكاسٌ كبيرٌ على سلوك الصحابة وعبادتهم، فقد كان ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار يرفع صوته بالكلام إذا تكلّم، حتى أنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)،فجلس في بيته، واعتقد أنّه من أهل النار، فسأل عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخبر سعد بن معاذ بشأن ثابت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (بلْ هو مِن أهلِ الجنَّةِ)،فكان خوف ثابت من الله تعالى سبباً لنجاته من النار فالخوف من الله تعالى من أعظم العبادات القلبية التي يتقرّب بها العبد من ربه.