نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم
ذكرت عائشة -رضي الله عنها- أنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- حُبّب إليه الخلاء، فكانت عادة النبي أن ينطلق إلى غار حراءٍ، يقضي الليالي ذوات العدد فيه، حتى إذا جاءه الملك جبريلٌ يوماً ما، حيث قالت عائشة رضي الله عنها فيما ترويه: (فجاءَهُ المَلَكُ فقالَ: اقرأْ، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ما أنَا بِقَارِئٍ، قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتى بلغَ مني الجَهدَ، ثم أرسلنِي، فقالَ: اقرأْ، قلتُ: ما أنَا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانيةَ حتى بلَغَ مني الجَهدَ، ثم أرسلَني فقالَ: اقرأْ، قلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخذَنِي فَغَطَّنِي الثَالِثَةَ، حتى بلَغَ مني الجَهْدَ، ثمَّ أرسلَنِي فقالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ)، ثمّ أرسله الملك جبريل عليه السلام، والنبي صلّى الله عليه وسلّم خائفاً خوفاً شديداً ظاهراً، فعاد سريعاً إلى زوجته خديجة رضي الله عنها، وأخبرها بما حصل له، وهو يظهر عليه الجزع والفرع، ويردّد: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)، وأمّا ردّ زوجته الأمينة الحكيمة، التي تبعث في النفس السكينة، والطمأنينة، أجابته: (كلَّا، أَبْشِرْ، فواللهِ لا يُخْزِيكَ اللهُ أبداً، فواللهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرحِمَ، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نَوَائِبِ الحقِّ).
undefinedانط -رضي الله عنها- بعد ذلك مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إلى ابن عمٍ لها؛ هو ورقة بن نوفل؛ وهو رجلٌ قد تنصّر في الجاهلية، ويقرأ العبرانية، وقد كان شيخاً كبيراً، فأخبرته خديجة بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال لها ورقةٌ: (هذا النَّامُوسُ الذي أُنِزَل على موسَى)، ثمّ بعد البشرى تابع ورقةٌ الكلام والتوضيح، فقال: (لَيْتَنِي فيهَا جذَعاً، ليتَنِي أكُونُ حيّاً، ذَكَرَ حَرفاً، قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قالَ وَرَقَةُ: نَعمْ، لم يأتِ رجلٌ بمَا جِئْتَ بهِ إلا أُوِذِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَومُكَ حياً أنْصُرُكَ نصراً مُؤَزَّراً). ثمّ توفّي ورقة بن نوفل بعد هذا بوقتٍ قصيرٍ.
العُزلة وفوائدها على الإنسان
يظهر من قصّة النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وعادته بالتعبد في غار حراء، فضل الخلوة على الإنسان وأثرها، فإنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- كان يبتغي من خلواته تلك، التفرّغ للعبادة، والاتصال بربّه عزّ وجلّ، وذلك ما جاء به الإسلام بعد ذلك، على هيئة الصلوات التي افترضها، والاعتكاف في رمضان الذي شرعه الإسلام، وقيام الليل، وغير ذلك، وما شُرعت تلك العبادات والخلوات، إلّا لأثرها البالغ على القلب، ويختلف فضل الخلوة والانعزال عن الناس، بحسب المكان والزمان، إلّا أنّها كما قال العلماء في حال ظهور الفتن أولى، والحاجة إليها أعظم، فالخطابي -رحمه الله- يقول: والعزلة عند الفتنة أنبياء، وعصمة الأولياء، وسيرة الحكماء الألباء، والأولياء فلا أعلم لمن عابها عذراً، ويقول ابن تيمية: لا بدّ للعبد من أوقاتٍ ينفرد بها بنفسه في دعائه، وذكره، وصلاته، وتفكّره، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، ولذلك كانت الخلوة قد حببت إلى النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في بداية أمره؛ لأنّها تُعين على فراغ القلب الذي يُوصل إلىالتفكر. والانقطاع، عن ما ائتلف عليه البشر واعتادوا.
بُغض النبي للأصنام
كان العرب في الجاهلية يؤمنون بأنّ للكون خالقاً يُعبد، حتى إنّهم لم يقولوا يوماً أنّ اللات والعزّى أنّهم خلقوا السماوات والأرض، ولكنّهم كانوا يشركون الخالق في العبادة، معتقدين بأنّهم شفعاءٌ عند الله سبحانه، ووسيلةٌ للتقرب منه، حيث قال الله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)، والنبي -صلّى الله عليه وسلّم- كان يُدرك كلّ تلك الأمور، ويعلم أيضاً أنّ اللات والعزى أصناماً لا تضرّ ولا تنفع، وأنّها ليست الطريقة السليمة للوصول الى الله تعالى، فأنكرهما أيضاً، ولم يتقرّب إليهما، وكان ذلك واضحاً ظاهراً أمام الناس، فلم يُخفِه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان يطوف مرةً بالكعبة، وقد وضع في صحنها صنمان؛ هما إساف ونائلةٌ، فيقول زيد مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
(وقد طُفنا: لأَمَسَّنَّهما حتى أنظرَ ما يقول، فمَسَسْتُهما، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ألم تنْهَه؟ فلا والذي أكرمَه ما مسَسْتُهما حتى أنزل اللهُ عليه الكتابَ).
موقع غار حِراء
ترك النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وسط عبادة الأوثان التي كانت منتشرةً ميسرةً، وبعض العادات السيئة التي سادت المجتمع الجاهليّ، واختار أن يختلي بنفسه، ويبتعد عن انشغالات البشر، وضوضائهم، وينفرد بالتعبّد والتحنث، وقد كان حنيفاً على دين إبراهيم عليه السلام، وقد وقع اختيار النبي -صلّى الله عليه وسلّم- على غار حراءٍ؛ وهو غارٌ يقع على يسار قمة جبل النور؛ وجبل النور يقع في جهة الشمال الشرقي لمكة، وبالرغم من أنّ الجبل كان وعراً جدّاً، وصعوده ونزوله فيه شيءٌ من الخطر، وطوله يبلغ 642 متراً، إلّا أنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- ظلّ يتردّد إليه باستمرارٍ، فتقول عائشةٌ رضي الله عنها:
(ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ؛ وَهُوَ التَّعَبُّدُ، اللَّيَالِيَ أُولاَتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا)،
وأمّا تفاصيل الغار: فهو يشبه سنام الجمل، أو القبة الملساء، طوله أربعة أذرعٍ، وعرضه ذراعٌ وثلاثة أرباع الذراع تقريباً، ويتّسع لبضعة رجالٍ يصلّون فيه، ويجلسون، ويوجد في مدخله صخورٌ كبيرةٌ متراصّةٌ بعضها فوق بعضٍ، وفيها فجوةٌ صغيرةٌ طويلةٌ يحتاج من يدخل الغار أن يمرّ منها، لكنّها تطلب كثير الحذر والانتباه لوعورة المكان.
لقت خديجة