لقد قام رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - خلال إرسائه لقواعد الدّولة الإسلاميّة بالعديد من الغزوات، وذلك دفاعاً عن المسلمين، واسترداداً لحقوقهم، إذ أنّ الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - لم يبدأ بالغزوات إلا بعد أن تلقّى هو والصّحابة رضوان الله عليهم أبشع أنواع العذاب من كفّار قريش، ممّا أضطرهم في النّهاية إلى الهجرة إلى المدينة المنورة، خوفاً على أنفسهم من القتل، وبعدها قامت الغزوات بقيادة الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - استرداداً لحقوقهم، ودفاعاً عن أنفسهم، وردّاً لهجوم قريش عليهم.
قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالعديد من الغزوات أشهرها:
غزوة بدر الكبرى
بلغ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - ما كان من أمر انصراف عير قريش من الشّام في رمضان على رأس ثلاثة عشر شهراً من الهجرة، وهي بصبحة أبي سفيان بن حرب، وهي العير التي خرجوا في طلبها لمّا خرجت من مكّة، حيث كانوا أربعين رجلاً، وكانت الحافلة مليئةً بأموال كثيرة لقريش.
حيث ندب النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - النّاس للخروج لملاقاة هذه العير، وخرج مسرعاً من ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وكان معهم من الخيل مجموعة فرسان، هم: الزّبير بن العوّام، والمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيراً، يركب الرّجلان والثّلاثة على البعير الواحد تعاقباً.
وقد استخلف النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - على المدينة وعلى الصّلاة ابن أم مكتوم، ولمّا كان بالرّوحاء ردّ أبا لبابة بن عبد المنذر، واستعمله على المدينة، وأمّا أبو سفيان فقد بلغه أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قد خرج لملاقاته، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ إلى مكة، حتى يستصرخ قريش للنّفير ليحموا عيرهم، ويمنعوها من محمّد وأصحابه.
ثمّ سار رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم إلى بدر بعد أن استشار أصحابه، واستطاع أبو سفيان أن ينجو بالقافلة، ثمّ كتب إلى قريش:" أن ارجعوا، فإنّكم إنّما خرجتم لتحرزوا عيركم "، ولمّا أتاهم الخبر وقد كانوا بالجحفة، أرادوا الرّجوع، لكنّ أبو جهل قال لهم:" والله لا نرجع حتى نقدم بدراً، فنقيم بها، ونطعم من حضرنا من العرب، وتخافنا العرب بعد ذلك "، وق أشار الأخنس بن شريق عليهم بالرّجوع لكنّهم عصوه، فرجع هو وبنو زهرة ولم يشهدوا بدراً.
وقد سار النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - بأصحابه حتى نزل أدنى ماء من مياه بدر، فقال:" أشيروا عليَّ في المنزلِ، فقال الحُبابُ بنُ المُنذِرِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرأيتَ هذا المنزِلَ، أمنزِلٌ أنزَلَكَه اللهُ ليس لنا أن نتقدَّمَه ولا نتأخَّرَه؟ أم هو الرَّأيُ، والحَربُ، والمكيدَةُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بل هو الرَّأيُ، والحَربُ، والمكيدَةُ. قال: فإنّ هذا ليس بمنزِلٍ، انطلِقْ بنا إلى أدنى ماءِ القومِ . . "، فقد أراد أن ينزل عليها ويسبق القوم إليها، ويغوّر ما سواها من المياه.
ثمّ سار المشركون وهم يريدون المياه، وبعث النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - عليّاً، وسعداً، والزّبير إلى بدر، يلتمسون الخبر، فقدموا بعبدين لقريش، وكان رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قائماً يصلّي، فسألهما أصحابه: من أنتما؟ قالا: نحن سقاة لقريش، فلمّا سلّم رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال لهما: أخبراني أين قريش؟ قالا: وراء هذا الكثيب، فقال: كم القوم؟ فقالا: لا علم لنا، فقال: كم ينحرون كل يوم؟ فقالا: يوماً عشراً، ويوماً تسعاً، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: القوم ما بين تسعمائة إلى الألف.
ثمّ سبق رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وأصحابه إلى الماء، وصنعوا الحياض، ثم غوّروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وأصحابه على الحياض. ثمّ قام النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - ورفع يديه، واستنصر ربّه وقال:" اللهمَّ ! أَنجِزْ لي ما وعدتَني، اللهمَّ آتِ ما وعدتَني، اللهمَّ إن تهلِك هذه العصابةُ من أهلِ الإسلامِ لا تُعبدُ في الأرض ".
وقد كان من جملة من حضر بدراً من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، حيث كان من المهاجرين ستة وثمانون رجلاً، ومن الأوس واحد وستون رجلاً، ومن الخزرج مائة وسبعون رجلاً، وقد نصر الله عزّ وجلّ المسلمين في بدر واذلّ فيها المشركين.
غزوة الخندق
قال ابن اسحاق:" ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ "، وَقَالَ ابْن سَعْدٍ:" فِي ذِي الْقَعْدَةِ "، وقد سمّيت هذه الغوة بذلك الاسم بسبب الخندق الذي حفر حول المدينة في شاميّها، من طرف الحرّة الشّرقية، إلى طرف الحرّة الغربية، كما تسمّى أيضاً بغزوة الأحزاب، وذلك لتحزّب طوائف من الكفار على قتال المسلمين، وهؤلاء هم: قريش، وغطفان، واليهود، ومن تبعهم.
ولمّا أخرج النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - اليهود من المدينة، وألحقهم بخيبر، والشّام، وقام بأخذ أموالهم، وقتل منهم من قتل، غاظهم ذلك، فأوغروا قلوب قريش على النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - حتى يخرجوا لقتاله، ثمّ خرج اليهود إلى غطفان، ودعوهم ليحاربوا الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - فخرجت قريش في أربعة آلاف، وكان لواؤهم بيد عثمان بن أبي طلحة قبل إسلامه، وكان عدد خيلهم ثلاث مئة فرس، وكانت إبلهم ألفاً وخمس مئة بعير، وكان قائدهم أبو سفيان. وقد خرجت غطفان في ألف، وكان قائدهم عيينة بن حصن الفزّاري، وخرجت أشجع في أربع مئة رجل، يقودهم مسعود بن رخيلة، وسليم في سبع مئة، وكا يقودهم سفيان بن عبد شمس، وبنو أسد، وكان يقودهم طليحة بن خويلد الأسديّ، وخرجت بنو مرّة في أربع مئة، يقودهم الحارث بن عوف، ومجموعهم عشرة آلاف، وكانوا ثلاثة عساكر، وقائد الكلّ أبو سفيان.
ولمّا بلغ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم خبر خروجهم، ندب النّاس لحفر الخندق حول المدينة، وكان - صلّى الله عليه وسلّم - يضرب مرّةً بالمعول، ومرةً بالمسحاة يغرف بها التّراب، ومرّةً يحمل التّراب في المكتل، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف على الصّحيح المشهور، وكان الخندق بإشارة من سلمان الفارسي رضي الله عنه، حيث أنّه قال:" يا رسول الله، إنّا كنّا إذا حوصرنا خندقنا علينا "، فكانت هذه مكيدة لم تعرفها العرب.
وعندما فرغ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - من حفر الخندق، أقبلت قريش ونزلت في مجتمع الأسيال، وكانت غطفان في ذنب نقمى إلى جانب أحد، وخرج النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - ومعه المسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى جبل سلع، فعسكر هناك، وكان الخندق بينه وبين القوم، وأمر أن تجعل النّساء والأطفال في الأبنية العالية المرتفعة.
ذكر في العيون:" وعظم عند ذلك البلاء، واشتدّ الخوف، وأتاهم عدوّهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظن، ونجم النّفاق من بعض المنافقين، قال تعالى:" يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱذْكُرُوا۟ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴿٩﴾ إِذْ جَآءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلْأَبْصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ ﴿١٠﴾ هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا۟ زِلْزَالًا شَدِيدًا" .".
وقد أقام النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - والمسلمون، وعدوّهم يحاصرهم، ولم يدر بينهم قتال، إلّا أنّ مجموعة فرسان من قريش منهم: عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، قاموا للقتال، ثمّ خرجوا يمتطون خيلهم، حتّى مرّوا بمنازل بني كنانة، فقالوا:" تهيّأوا يا بني كنانة للحرب؛ فستعلمون من الفرسان اليوم "، ثمّ اقبلوا حتّى وقفوا على الخندق، ولمّا رأوه قالوا:" والله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها "، ثمّ نزلوا من مكان ضيّق من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السّبخة بين الخندق وسلع.
وحدثت أحداث كثيرة بعد ذلك، ثمّ قال أبو سفيان:" يا معشر قريش؛ إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الرّيح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا؛ فإنّي مرتحل "، ثمّ قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثمّ ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلّا وهو قائم.
وقد ذكر ابن إسحاق وغيره:" أنّه استشهد من المسلمين يوم الخندق ستّة لا غير: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس، وعبد الله بن سهل الأوسيون، والطفيل بن النّعمان، وثعلبة بن عنمة، وكعب بن زيد، الخزرجيّون".
غزوة بني قنيقاع
خرج النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - في يوم السّبت، النّصف من شوّال، على رأس عشرين شهراً من الهجرة، وذلك لقتال بني قينقاع، وهم بطن من يهود المدينة، وكان سبب هذه الغزوة قيام يهود بني قنيقاع بنقض العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقد روى ابن هشام:" أنّ امرأة من العرب قدمت بجلب لها من إبل، وغنم، وغيرهما فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ
يهوديّ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلمّا قامت.. انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصّائغ فقتله، وكان يهوديّاً، فشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشرّ بينهم وبين بني قينقاع ".
وقد استخلف النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - على المدينة حينها أبو لبابة بن عبد المنذر، وحاصر اليهود خمس عشرة ليلةً حتّى هلال ذي القعدة، وقد كانوا أوّل من غدر من اليهود، وتحصّنوا في حصونهم، فحاصرهم النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - أشدّ الحصار، ثمّ قذف الله عزّ وجلّ الرّعب في قلبوهم، فنزلوا على حكم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، على أنّ للنبي - صلّى الله عليه وسلّم - أموالهم، وأنّ لهم النّساء والذّرية، ثمّ نزلوا فكتّفوا، فكلم فيهم عبد الله بن أبيّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وألحّ عليه، فقال: حُلُّوهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ مَعَهُمْ "، وتركهم من القتل، وأمرهم بالجلاء عن المدينة.
غزوة بني سليم
حدثت هذه الغزوة بعد انتهاء الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - من بدر بسبع ليال، كما جزم به ابن إسحاق، حيث خرج النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - لبني سليم في مئتي رجل، فلمّا بلغه - صلّى الله عليه وسلّم - أنّ جمعاً من بني سليم وغطفان بماء يقال له الكدر، أقام عليه - عليه الصّلاة والسّلام - ثلاثاً، فلم يلق كيداً حينها، وكانت غيبته - صلّى الله عليه وسلّم - خمس عشرة ليلةً، وقد استخلف وقتها على المدينة سباع بن عرفطة، وحمل اللّواء لعلي بن أبي طالب.