من جملة الوصايا التي أوصى الله تعالى بها عباده المؤمنين الإحسان للجار وقد جاءت هذه الوصية في الآية ذاتها التي يدعو فيها سبحانه وتعالى للإيمان به، قال تعالى: ( وَٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا۟ بِهِۦ شَيْـًٔا وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلْجَنۢبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا .).
أما في اللغة فلكلمة جار عدّة اشتقاقاتٍ ومَعانٍ، فمنها (جاوره) مجاورةً وجواراً أي ساكنه، ولاصقه في المَسكن، وأعطاه ذمّةً يكون بها جاره، ويُجيره وجاور المسجد إذا اعتكف فيه، ويُقال جاور المدينة أو مكة وبني فلان وفيهم، أي تمتع بجوارهم. واجتور القوم جاور بعضهم بعضاً، والجار المُجاور في المسكن.
لا يخرج المعنى الاصطلاحي لمفهوم الجار عن المعنى اللُّغوي، فيكون معنى الجار المُلاصقة في السكن، ونحوه كالبستان، والشركة،والدكان
أصناف الجار
الجار إمّا أن يكون قريباً، وهو الذي وَصفته الآية الكريمة بالجار ذي القربى في قوله تعالى: (...وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلْجَنبِ)، فهو جارٌ وقريبٌ في آنٍ واحدٍ، ولذلك يَجتمع له الحقّان، حق الجوار وحقُّ القُرابة، ثم تَكلّمت الآية الكريمة عن الجار الجُنُب، وتفسير الجار الجنب يَحتمل عدّة وجوه، ولعلها كلها صحيحة، وقد قيل في تفسير الجار الجُنُب إنّه الجار الذي لا تربطه بك صِلة قرابة، وقيل الجار الجنب هو الجار الذي لا يُخالط جيرانه، حتى إنّه لشدة اعتزاله للناس فإنَّهم لا يعرفون اسمه، وهذا التوجيه في التفسير هو نظرة مُعاصرة لتفسير الجار الجُنُب قاله الشيخ الشعراوي رحمه الله.
وكلّما كان الجار أقرب كان هذا القرب أكثر تأكيداً لحقه، فالأولوية للجار الذي له جوار وقرابة، ثم من له جِوار ولا تَربطه بجاره صِلة قرابة ولكنّه جارٌ مسلم، ثمّ جارٌ ليس له صِلة قرابة، وليس مُسلماً بل قد يكون يَهوديّاً أو نَصرانيّاً، ولهذا الجار اليهودي والنصراني حق الجوار كذلك، شأنه شأن باقي الجيران، وإنّما الكلام عن الترتيب والأولوية في الإهداء والعطيَّة في حال وجودها، ولا يُقصد قطعاً أن يُحسن إلى أحد هؤلاء الجيران دون غيره، بل يُحسن الجار إلى جميع جيرانه.
يقول سيد قطب في تفسيره: (يلحظ في هذه الآية -وفي كثير غيرها- أن التوجيه إلى البِر يبدأ بذوي القربى -قرابة خاصة أو عامة- ثم يمتد منها ويتسع نطاقه من محورها، إلى بقية المحتاجين إلى الرعاية من الأسرة الإنسانية الكبيرة).
حد الجوار
اختلف الفقهاء في حد الجوار، ومن هو الجار الذي له حق الجوار؟ إلى عِدَّة أقوال على النحو التالي:
ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ حد الجوار أربعون جاراً في كل اتجاه، واستدلوا بما رُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام قال: (حَقُّ الجارِ أربعونَ دَارًا هَكَذا وَهكَذا وَهكَذا وَهكَذا يَمينًا وشِمالًا وقُدَّامًا وخَلْفًا).
وذهب المالكية إلى أن الجار هو الجار المُلاصق من أي جهة من الجهات، أو هو الجار المُقابل له بحيث يكون بينهما شارعٌ ضيِّقٌ، على ألا يفصل بين الجوار فاصلٌ كبيرٌ، مثل السوق أو النهر المُّتَسع، أو الجيران الذين يجمعهما مسجدٌ أو مسجدان مُتقاربان، إلا إذا دلّ العرف في بلدٍ على غير هذا الحد، فيُؤخذ بالعرف حينها في تحديد الجار.
وحَمل المالكية حديث: (أنَّ رجلًا أتَى النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يشكو جارًا له، فأمر النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بعضَ أصحابِه أن يناديَ: ألا إنَّ أربعين دارًا جارٌ). على الاحترام والتكريم للجار، وما للجار من حقوق وواجبات على جاره.
وذهب أبو حنيفة وزُفر إلى أنَّ الجار هو الجار المُلاصق في السكن، وحُجَّتهم في ذلك أنّ المُجاورة هي المُلاصقة الحقيقية.
حق الجار على الجار
للجار على جاره حقوق وواجبات كثيرةٌ، ومن هذه الحقوق ما يلي:
الإحسان إلى الجار، فقد رُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أنّه قال: (اتَّقِ المحارمَ تكن أعبدَ الناسِ، وارْضَ بما قسم اللهُ لك تكن أغنى الناسِ وأَحْسِنْ الى جارِك تكن مؤمنًا، وأَحِبَّ للناسِ ما تُحبُّ لنفسِك تكن مسلمًا، ولا تُكثِرِ الضحكَ، فإنَّ كثرةَ الضحكِ تُميتُ القلبَ، كن ورعًا تكن أعبدَ الناسِ، وكن قنعًا تكن أشكرَ الناسِ وأَحِبَّ للناسِ ما تُحبُّ لنفسِك تكن مؤمنًا، وأحْسِنْ مجاورةَ من جاورَك تكن مسلمًا).
إكرام الجار، فعن أبي شُريح العدوي -رضي الله عنه- أنّه قال: (سمِعَتْ أُذُنايَ، وأبصَرَتْ عَينايَ، حين تَكَلَّمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ( مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُكرِمْ جارَهُ)).
تَفقُّد الجار وإطعامه إن جاع، فقد جاء عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قال: (ما آمن بي من بات شبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلم به).
المُحافظة على عِرض الجار وعدم خيانته، فقد جاء في الرواية عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنّه قال: (سألتُ، أو سئلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أيُّ الذنبِ عندَ اللهِ أكبرُ؟ قالَ: (أنْ تجعلَ للهِ ندًا وهوَ خَلَقَكَ) قلتُ: ثمَّ أيُّ؟ قالَ: (ثمَّ أنْ تقتُلَ ولدَكَ خِشيَةَ أنْ يطْعَمَ معكَ). قلتُ: ثم أيُّ؟ قالَ: (أنْ تُزانِيَ بحليلةِ جارِكَ). قالَ: ونزلَتْ هذهِ الآيةُ تصديقًا لقولِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ