من عظمة القرآن الكريم، أنه قرر مبادئ عالمية تصلح لأن تكون شعارات ينتهجها الإنسان في حياته، فهي كالنور في الظلمة لكل من تاه وضل السبيل، سبيل الحق والهداية، وليس معنى ضل السبيل فقط سبيل الآخرة، بل السبيل في الدنيا أيضاً
جاء في القرآن الكريم آيات تدل على أن عمل الإنسان وسعيه في هذه الدنيا له وحده، وأنه لا ينفع الإنسان إلا عمله وتحصيله فحسب. من ذلك قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم:39) فالآية صريحة في أن الإنسان لا ينفعه إلا كسبه، ويفهم منها أنه لا ينتفع أحد بعمل أحد.
وبالمقابل، فقد جاءت آيات أُخر، تدل على أن الإنسان ربما انتفع بعمل غيره؛ من ذلك قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} (الطور:21) فَرَفْعُ درجات الذرية -سواء قلنا: إنهم الكبار أو الصغار- نفع حاصل لهم، وإنما حصل لهم بعمل آبائهم لا بعمل أنفسهم. وإذا كان الأمر كذلك، فقد يبدو أن ثمة تعارضًا بين مدلول الآيتين الكريمتين.
السعي في هذه الآية شامل لكل معاني الحياة وذلك لأن هنا هو الإنسان، بدون النظر إلى أية تفصيلات أخرى، وبالتالي فإن السعي في هذه الآية يشتمل على التعلم والعبادة والعمل وتطوير النفاس والاختراع والسفر والزواج وتكوين العلاقات الاجتماعية وغيرها العديد من النشاطات التي تعمل على زيادة مخزون الإنسان المعرفي والروحي، وبالتالي زيادة رصيده وزيادة قيمته، فهو إنسان متميز يحبه الله وبالتالي سيحبب الناس فيه وجميع , أحد المبادئ العظيمة التي قررها القرآن الكريم بأسلوب لغوي لا يوجد مثيل له، وفي سياق آيات عظيمات، وقرآن معجز، فهذه الآية تصلح أن تكون إحدى العالميات التي يرتكز عليها البشر خلال دروب حياتهم، فهي تحمل معانٍ مستفيضة قبل أن تحمل عبارة أخرى مثلها. يبعد هذا المبدأ الإنساني العظيم عن الإنسان كل ما قد يدخل في صدره من يأس أو حقد أو غيره وأي شيء آخر من أمراض النفس المستعصية، فتوجه هذه الآية خطابها لكل البشر على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعراقهم وأديانهم وطوائفهم وأفكارهم ومللهم ولغاتهم لتقول لهم أن ما يحدد تميز إنسان عن إنسان آخر هو مقدار بذله وعطائه في سبيل رفعته ونهضته وعزته، حيث سمت هذا البذل والعطاء بالسعي، فلقد خلق الإنسان في هذه الأرض ليكون خليفة الله فيها، يعمرها ويسعى فيها ويكتشف خفاياها، لينعم بالعيش الهانيء والحياة الجميلة. وهي تقول أيضاً أن الراحة والسكون الدعوة وقبول الأمر الواقع لن يحدثا تغييراً حقيقياً، ينشده الناس، يحقق لهم الحياة الكريمة التي يسعون إليها، فكل شيء في هذا الكون متحرك، والكون لا يعرف السكون، ولهذا يجب على الإنسان أيضاً أن يكون دائم الحركة والسعي وراء احتياجاته ووراء عزته وأهدافه ورفعته، فالتقدم يحتاج للحركة.
ويمكن أن يقال -بعد كل ما تقدم-: إن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد، ليس للأولاد، كما هو نص قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ولكنه من سعي الآباء، فهو سعي للآباء أقر الله عيونهم بسببه، بأن رفع إليهم أولادهم، ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم. فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها؛ لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء ثم الأولاد، فانتفاع الأولاد تَبَع، فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم، كما تفضل بذلك على الولدان، والحور العين، والخلق الذين ينشئهم للجنة.