شهدَ العصر العباسي حركة شعريّةً خالدة، متمثّلةً بشعراء عُدُّوا من أهمّ التجارب الشعرية في الأدب العربي على مرِّ التاريخ، كأبي فراس الحمداني وأبي نُوَاس وأبي العتاهية والبحتري وأبي تمام والشريف الرضي وأبي العلاء المعرَّي، وهذا ما جعل العصر العباسي من أعظم العصور التي مرّت على تاريخ الأدب، وقد حاول الشعراء في هذا العصر الالتزام بالأغراض الشعرية الموروثة، فكتبوا في الرثاء والغزل والمديح والهجاء كمن سبقهم، وهذا المقال مخصص للحديث عن أبرز شعراء العصر العباسي، مالئ الدنيا وشاغلِ الناس، أبي الطيب المتنبي الذي يعتبرُهُ النقاد من أعظم شعراء العرب على مر التاريخ، وسيتم الحديث عن حياتِهِ وعلاقته بسيف الدولة وعن قصائده وعن قصة وفاتِهِ.
إنَّ سيف الدولة الحمداني هو سيف الدولة أبو الحسن بن حمدان، اشتهر باسم سيف الدولة، وُلِدَ عام 916م وهو مؤسس إمارة حلب، التي كانت تمتدُّ على أغلب مناطق الشمال السوري آنذاك، وهو الملك الذي قرّب المتنبي إلى بلاطِهِ، فنال من مدائح المتنبي الكثير وكان له نصيب وافر في شعرِهِ العظيم، فحسُنَ موقع المتنبي عند سيف الدولة، وأجازه الخير الوفير، وأحبّه، فقرّبَهُ وأكرمهُ، وقد صحبَ المتنبي سيف الدولة في كثير من الغزوات والحروب ضد الروم، حتّى خلّده شعرًا وبنى له مجدًا خالدًا من الكلمات، ولعلَّ أبرز ما قال فيه:
على قَدْرِ أهلِ العَزْمِ تأتي العزائِمُ وتأتي على قَدْرِ الكِرامِ المكـارمُ
وتَعْظُمُ في عَينِ الصغيرِ صغارُها وتَصْغُرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ
هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرفُ لونَها وتَعْلَـمُ أيُّ الساقِيَيـْنِ الغَمَائـِمُ
بَنَاها فأعْلى وَالقَنـَا يَقْرَعُ القَنَـا ومَوْجُ المنايا حَوْلَهـا مُتَلاطِـمُ
بعد الخصام الذي حصل بين المتنبي وسيف الدولة، اضطر المتنبي أنْ يسافر في البلاد ليمدح الملوك ويجني منهم المال لعيشة كريمة، فهاجر المتنبي من حلب إلى مصر ومدح كافورَ الأخشيدي، ثم تخاصم مع كافور فهجاه وهجا مصر هجاءً ثقيلًا، ثم غادر إلى بلاد فارس، وبعدَ انتهاء جولتِهِ، أقبل عائدًا إلى بغداد ولم يأتِ معه أي حرس ليحمونه من قطاع الطرق، جاء هو وابنه محشّد وغلامَهُ فقط، وهو في الطريق اعترضَتْهُ جماعة بقيادة فاتك بن أبي جهل الأسدي، وهو أحد الأشخاص الذين هجاهم المتنبي وأثقل في هجائهم عليهم، وعندما كاد المتنبي أن يفرَّ وينجو بحياتِهِ، اعترضهُ غلام وقال له: أتهرب وأنت القائل:
الخيل والليلُ والبيداءُ تعرفني والسَّيفُ والرُّمحُ
والقرطاسُ والقَلَمُ
فعادَ المتنبي للقتال حتّى قُتِلَ على يد تلك الجماعة عام 965م.